..
وصل ولكن...
باستغراب نظر الناس إلى دموعه والإمام يخطب: " اتقوا الله في بناتكم، زوجوهن لمن ترضون دينه وأمانته"
كان يحبني، بكى تساقط أوراق الربيع عن شجرة غمرها الخريف، كنت أضج بحياة غدت الآن بلا رنين...
امتلأ قلبه بالشجاعة ولسانهبالجرأة، هاتفني واتفقنا على لقاء.
حضر قبل الموعد، قطف من الورود أجملها، ومن العطور أبهجها، علت محياه ابتسامة رقيقة، كادت أن تتلاشى حين أبصرني قادمة، لكنه سرعان ما شحذ همته واسترجع ابتسامتة الهادئة..
ما زلت أتساءل لماذا طلب لقائي هنا وقد كان باستطاعته الحضور إلى المنزل متى شاء!
جلست أمامه بكبريائي المعهود، بالتجاهل الذي يعتبر (موضة) بين البنات، وهل أنا بنت على عتبة الأربعين!...
نظرت إليه بحدة منتظرة أن يتكلم، فتنحنح وخفض عينه:
-أنا.. قالها عدة مرات وهو يبحث يمنة ويسرة عن جرأته التي تبخرت لحظة جلوسي أمامه
- نعم أنت… وأنا هنا....
- أريد أن.. وتتبعثر الكلمات في كل الاتجاهات
- تريد ماذا؟
- أحبك.. وأريد الارتباط بك.. ثم أخرج زفيرا كمن نضح المحيط
- وكم تملك من المال يا ابن عمي؟..
ساد صمت كالموج هادر، كالجمر في اليد حارق، كحد السيف قاطع، كحلم مسن يغلي من التجمد... لحظات تسبح في فراغ...
عجز عن التأتأة، وضع رأسه بين كفيه... هل أخطأت عندما أردت التعبير عن مشاعري! ربما لا أستحقها، كان يجب ألا أخوض في هذه الحماقة، سحقا لقلبي البائس، ويا لك من خطيب مغرر!
هي كمن رأت غريما، أذاقها الذل والهوان، ولما تمكنت منه وجهت له طعنات بلا وعي، وحين استيقظت وجدت نفسها تغرق في بحر من الدماء، تنتقم من نفسها لتأخرها، تطعن التعنت الذي لازم أبيها طوال سنوات عجاف حتى أيأس الناس منها.. أرادت رجم تقاليد أجبرتها على إطفاء زهرة شبابها، طاعة لولي أمرعاجز عن اتخاذ قرار صائب، تُحمّل كل عائلتها مسئولية عدم قبوله، فقد جاءت أمه تلمح لمصاهرتهم قبل أن يتغرب للدراسة، فأكرموها بفظاظة مذلة، عيروها بالفقر وسوء الحال... الذنب ذنبي ولا علاقة له، منذ الصبا وهو يتقرب إلي، يضحك لي، يبش في وجهي، يركض لمساعدتي، يحاول اختراع الحجج لرؤيتي والتحدث معي، يجلب الهدايا من مصروفه للظفر بابتسامتي، رغم أنه كان متفوقا علي، لكنه هو السبب في نجاحي في الثانوية... عيناه لم تغادرني أثناء احتفالي بالمناسبة، يملؤهما خجل حذر، كلامه لطيف يتفجر حكمة ويشع أملا، سحقا لقلبي الغافل، سحرته الدنيا ببريقها ومالها حتى أصبحت ورقة رعناء على أرض يباب، هل أصابتني العدوى؟!
أفاق من صدمته، لملم نفسه، ارتوى عمرا من الحرمان والصدود والعذاب، رفع رأسه، نظر إليها بعين ملؤها العطف والحنان، وقبل أن يقول شيئا بادرته وهي تغادر: آسفة يا ابن عمي ولنا لقاء....
كانت لطمة مشبعة بالذكريات، أغرقته بشيء ما، وضعت الأمل أمامه، ابتسمت للذهول المتناسل على ملامحه، ومضت تاركة له لذيذ الدهشة.
حلقت مع الطيور، رفرفت معها فوق السحب الحالمة المتناثرة، العابثة بضوء الشمس، تثرثر بهدوء مع الريح.
ابتلعت نظراته الأرض من تحت خطواتها وهي تبتعد برشاقة فاتنة، كظبي يستمتع بجمال الطبيعة يجوب البراري، مضطربة كطير وجد نصفه الآخر.
حاولت إخفاء البريق المشع من عينيها في لحظة أرهقتها الذكريات، لكنها لم تستطع منع وجنتيها من التحول إلى جوري يغازله الندى ساعة الشفق.
طردت كل الأفكار المستخدمة من غرفتها، جلست وحيدة، تتخلص من ذكرياتها المهترئة، تعيد ترتيب مشاعرها المقموعة، فالسماء حبلى، والبذرة هشة لم تعد تحتمل الجفاف.
عيناه تزغردان من الفرحة، جسده ينتفض كطائر وجد الدفء في أحضان خيوط الشمس الخجولة، بعد أن اغتسل طول العمر بالحرمان.
وجد قوة وجرأة للانطلاق خلفها وإنهاء تمرد سنين الضياع، لكن عاصفة قطبية اجتاحته، فتجمد مكانه مراقبا، منتظرا نهاية النزاع بين قلبه وعقله، دقات قلبه طبول تقرع كامل جسده بأنهار عاصية من التوتر، عقله سجين كبله التشظي؛ وقد كان ولي أمر كل تصرفاته ردحا من الزمن، تحوَّل الآن إلى تمثال من قلق..
يلبس ستائر الهذيان، تدخل الشفاه بتمتمات جنونية... هل أنتما مسروران الآن في قبريكما، هل تشاهدان مأساتنا كفيلم سينمائي ماتع؟ أُراهن أنكما تضربان الأقداح فرحا بما أنجزتما، حاولتما مزج المتضادين في إناء غبي، موت أبوها بعد عشرين سنة ليس سببا كافيا لإرغامنا على السير في دروب متلاطمة عمياء... هل أردت أن تمنح نفسك صك غفران عن وعدك لأبيها؟! هل أخبرته أنك أنجزت وعدك له بتسويد حياة ابنيكما؟
قرر القلب تفريغ كامل حمولته المرفوضة على رصيف الوقت فطرحها أرضا وأغلق أبوابه... لن أستطيع حمل وعدك أكثر من هذا، سأُعيده إليك فافعل به ما تشاء، ستصلك رسالتي يا أبي فاقرأها على مهل، إلى أن نلتقي!
آه... في الداخل خنجر يمزقني ...
خرج من زوبعة أفكاره على صوت... سنقفل يا سيدي
وما هذا الصوت؟
هاتفك.. إنه يرن منذ زمن...
أُمي.. ما بك؟
زوجتك... أجنبي... أوروبا...
سقط الهاتف... ووجد نفسه يضمها إلى صدره ويبكي من شدة الفرح ...
مصطفى الصالح