وإذا قيل الأديب ...
.................................................. ..
ولو أردت تعريف الأديب من هو لما وجدت أجمع ولا أدقَّ في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، إذ كانت فيه مع خاصية الإنسان خاصية الكون الشامل، فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضاً منها.
وهو إنسان يدلّه الجمال على نفسه ليدلَّ غيره عليه، فأساس عمله دائماً أن يزيد على كل فكرةٍ صورةٌ لها، ويزيد على كل صورة فكرةً فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة، كأنما أوجدتهم الحكمة لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة، وكأنَّ هذا الكون العظيم يمرُّ في أدمغتهم ليحقِّق نفسه.
ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني، وفصلُ مابين العالم والأديب أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرةٌ وأسلوبها، وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعة، والطبيعة بأسرارها المتجهة إلى النفس.
وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيباً تاماً قائماً بحقائقه وأوصافه، فالأديب العبقريُّ لا يراها إلا أجزاء، فكأنما هو يشهد خلقها وتركيبها. وكأنما أمرَّها في (معمله)، أو كأن الله ـ سبحانه ـ دعاه ليرى فيها رأيه ... كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهَم: أنت كلمتي فقُل كلمتك ...
وهاهنا يتألَّه الأدب؛ فهو خالق الجمال في الذهن، والممكِّن للأسباب المعينة على إدراكه وتبيين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصُّور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية.
ويكون الأديب مكلفاً تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ودائماً إلى فوق!.
وإنما يكلَّف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييزُ وتقدُّم النظر وتسقُّط الإلهام؛ ولأن الأصل في عمله النفي ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه، وألا ينظر إلى وجوده بل إلى سره، ولا يُعنى بتركيبه بل بالجمال في تركيبه، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفيِّ في الإنسان يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى، وهل يُخلق العبقريُّ إلا كبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي من هو أكملُ والذي هو أبدع.
فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته فإذا وقائع الحياة في حذوٍ واحد من النزاع والتناقض، وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، اتجهت هذه النفسُ العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين، وأن تجمع الكل على الجمال، وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها، وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازعُ في مناحيها، فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين ، غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهى والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل، والدين يوجه الإنسان لربه، والأديب إلى نفسه، وذلك وحيُ الله إلى الملك إلى نبيٍّ مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرة إلى إنسان مختار.
فإن لم يكن للأديب مثلٌ أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله فهو أديبُ حالةٍ من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل.
واللذة بالأدب غير التلهي به، فإن اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة.
والعجب الذي لم يتنبه له أحدٌ اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديماً وحديثاً أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الإجتماعي للأديب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!
فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطاً فيه، ويأتي بقوة اللغة صورةً لقوة الطباع، وبعظمة الأداء لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقَّة النفس...
.... وإذا أردت الأدب الذي ينشىء الأمة إنشاءً سامياً، ويدفعها إلى المعالي دفعاً ويردُّها عن سفاسف الحياة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية ...
... وإذا وجدت الأدب على كل هذه الوجوه، وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصل الحي في ذلك كله، وأعجب مافيه أنه جعل هذا الأصل مقدساً، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لا تتغير، ومع ذلك لم يتنبه الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه ديناً فقط.
والقرآن بأسلوبه لا يستخرج منه للأدب إلا تعريف واحد وهو هذا: إن الأدب هو السموُّ بضمير الأمة.
ولا يستخرج للأديب منه إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقبٌ من ألقاب التاريخ.
(من كتاب من وحي القلم/ مصطفى صادق الرافعي)
بتصرف..