\\\\\\\\\\\
العهدترجمها عن التركية مصطفى الصالحأنا ولدت في (كونان)، هذه البلدة التي لم أرها منذ عشرين عاما صارت خيالا في ذاكرتي، كثير من الأماكن صارت مثل حلم منسي قديم بعيد، أحاول تذكر جامع السوق الذي كنت أمر من أمامه مع أبي الذي كان ضابطا شابا في ذلك الوقت، والشادروان (المتوضأ) الصغير الخرب المقابل له، والجدول الذي تسبح فيه آلاف الأخشاب، وبركة المياه الجوفية الساخنة العميقة التي كنا نرتادها للاستحمام، لكن يجابهني دخان نسيان أبيض، يمسح الألوان، يغير الأشكال.
كما حزن رجل يعود إلى وطنه بعد ابتعاد طويل، فيجد مرابع مسقط رأسه تقبع تحت سحابة داكنة تحجب رؤيته للأماكن التي يحبها من بعيد، أنا أشعر بهكذا حزن يشبه مثل هذا التوق والشوق. تلك الطرقات الترابية الغبرة التي تمر منها قطعان المواشي مساء، الأسقف القرميدية الطحلبية والسوداء، الجدران الكبيرة الموشكة على السقوط، الجسور الصغيرة الخشبية، الحقول الممتدة عبر الأفق، والحواجز القصيرة كلها تذوب في هذا الدخان.
أستطيع تذكر بيتنا والمدرسة فقط.
حديقة كبيرة... في وسطها بيت أبيض تماما على شكل القصور... في زاويته اليمنى غرفة بستائر بيضاء كنا نجلس فيها دائما... كانت أمي كطفل تجلسني على طرف النافذة في الصباحات، تراجع معي دروسي، وتسقيني الحليب. في طرف الباحة الآخر الظاهر من النافذة يوجد بناء كبير بلون التراب، له نافذة بدون زجاج وحماية، تلك الفتحة السوداء كانت تخيفني كثيرا.
خادمتنا "أبيل أنا" تطبخ طعامنا، وتغسل ثيابنا، تمسح ألواحنا، تطعم حصان والدي، وتعتني بكلاب الصيد. في تلك الفتحة المظلمة كنت كأني أرى الدب الذي كان في قصصها المرعبة التي كانت ترويها كل ليلة. أمي المسكينة كان عندها فضول سماع الأحلام وتحب تأويلها، فكنت أخترع لها كل صباح أحلاما فيها دببة، أخبرها عن دب أسود ضخم يخطفني، يذهب بي إلى الجبال، يضعني في كهفه في الغابة، يوثق يداي، يأكل أنفي وشفتاي، ثم يرميني على ترس الناعورة التي في طريق (بايراميچ). كنت أجبرها على تكرار قول " خيرا إن شاء الله". كانت أمي تؤول حلمي قائلة أنني سأصبح رجلا كبيرا، سيدا كبيرا، وباشا كبيرا، وكلما أكدت لي أن لا أحد سوف يستطيع الإساءة إلي أنسى أني كذبت، ويغمرني سرور كبير!
لا أعلم من أي الطرقات ولا مع من كنت أذهب، كانت المدرسة من طابق واحد وجدرانها بلا دهان، كان هناك باحة مغطاة بعد الدخول من الباب، بعدها حديقة صغيرة بلا أشجار... في نهاية الحديقة كان هناك برميل وضوء كبير جدا...
كان الطلاب ذكورا وإناثا يجلسون باختلاط، يدرسون معا، يلعبون معا. التي كنا ندعوها "الأستاذة الكبيرة" كانت امرأة بشعر خفيف مُحنّى، حدباء، طويلة، عجوز خرفة. "الأستاذ الصغير" كان رجلا، وهو ابن "الأستاذة الكبيرة"، لم يكن الطلاب يهابونه، أعتقد أنه كان فيه بعض الغباء. كنت أجلس في الخلف في مكان لا يمكن أن تصل إليه أطول عصا من عصي الأستاذة الكبيرة، كانت البنات تنادينني ب"السيد الأبيض" ربما بسبب لون شعري الأصفر الفاتح، كان الأولاد ينادونني باسمي أو ب"ابن الضابط". كانت لوحة "حضر ذهب" المتأرجحة على الدرفة الثابتة من باب الصف تنظر إلينا مثل وجه مسطح بلا روح، النور الباهت القادم من النوافذ القريبة من سقف الجدران الثخينة، يصبح أكثر ثقلا وغبشا مع الزعيق الحاد للأولاد الذين يصرخون باستمرار ويقرأون بصوت مرتفع.
كان هناك عقاب واحد في المدرسة: الضرب. المذنبون الكبار حتى البنات كانوا يضربون الفلقة، لم يكن هناك من لا يهاب ولا يرتعد من الفلقة، عقاب المذنبين الصغار كان بلا تحديد ولا معيار: صفعة قوية من الأستاذ الصغير!... العصا الطويلة للأستاذة الكبيرة، الرأس الذي تصادفه ينتفخ بالتأكيد.
لم يضربوني أبدا، ربما كانوا يحابونني. لكن في أحد المرات ولأني كذبت قامت الأستاذة الكبيرة بفرك أذني بيديها العظمية، فركتها بشدة لدرجة أنها كانت تؤلمني في اليوم التالي، مع العلم أني لم أكن مذنبا، فقد قلت الصواب، خلع أحدهم صنبور برميل الوضوء الذي في الحديقة، كانت الأستاذة الكبيرة تبحث عن المجرم، كان ولدا يلبس قميصا أزرق وحزاما أحمر، مريضا وضعيفا. أخبرت عنه، وعند تجهيزه للفلقة أنكر، ثم خرج ولد آخر واعترف بخلع الصنبور، وقال أن الولد الآخر بريء. استلقى على الأرض وتلقى العصي وهو يصرخ. بعدها توجهت الأستاذة الكبيرة نحوي قائلة: لماذا تكذب وتفتري على هذا المسكين وهي تفرك أذني، عبست في وجهي وغضبت مني.
بكيت كثيرا لأني لم أكذب، فقد رأيته بعيني وهو يخلع الصنبور. بعد الخروج من المدرسة مساء أمسكت بالولد الذي تلقى الفلقة وقلت: لماذا جعلتني كذابا، فليس أنت من خلع الصنبور؟
- بلى انا خلعته
- كلا أنت لم تخلعه، أنا بعيني رأيت الولد الاخر وهو يخلعه.
لم يستطع المقاومة، نظر إلى وجهي لحظة ثم قال أنه لن يخفي وسيحكي لي إن أنا حلفت اليمين ألا أخبر الأستاذة، فحلفت له اليمين فورا، لأني كنت متلهفا.
- علي هو من خلع الصنبور، أنا أيضا أعرف هذا، لكن علي ضعيف جدا ومريض كما ترى، لن يحتمل الفلقة، وربما يموت، فقد قام من الفراش حديثا.
- ولكن ما الذي يجبرك على تلقي الفلقة بدلا عنه؟
- لماذا سيكون! بيننا عهد، هو مريض اليوم بينما أنا قوي وبصحة جيدة، ولهذا أنقذته.
لم افهم جيدا، فسألت مرة أخرى:
- عهد ماذا؟
- ألا تعرف؟
- لا أعرف
ضحك وقال وهو يبتعد: نشرب دماء بعضنا، هذا يسمى "التعاهد". شاربو العهد يصبحون أخوة الدم، يسعدون بعضهم حتى الممات، بل يركضون لمساعدة بعضهم البعض.
ثم لاحظت فيما بعد أن معظم طلاب المدرسة قد شربوا العهد مع بعضهم، كانوا اخوة دم، حتى أن بعض البنات قد شربن العهد مع بعضهن.
في احد الأيام رأيت كيفية تنفيذ هذه العادة التي عرفتها حديثا.
كالعادة كنت في الصفوف الخلفية، كان الأستاذ الصغير قد خرج من أجل الوضوء، الأستاذة الكبيرة أعطتنا ظهرها وهي تصلي ببطء شديد، قام ولدان بجرح ذراعيهما بمشرط ذي مقبض خشبي، ثم قاما بمسح قطرات الدم الحمراء الكبيرة على الجروح وخلطا الدماء، ثم قاما بمص ذراعي بعضهما.
أخ دم عن طريق التعاهد!.. بدأت هذه الفكرة تراودني، لو كان عندي أخ دم لمنع الأستاذة من فرك أذني، ويمكن أن ينقذني من الفلقة إن صارت، كنت أظن أنني وحيد، بلا أخ وبلا حام في المدرسة الكبيرة.
حكيت فكرتي لأمي وأنني أريد التعاهد مع أحد ما كبقية الأولاد، شرحت لها العهد، لم توافق، وقالت محذرة:
- لا أريد من هذه الحركات، إياك أن تفعلها
لكني لم أسمع كلامها، كنت مصمما على التعاهد، لكن مع من!
اكتسبت أخ دم مصادفة بحادث غير متوقع، كان كل أولاد الجيران يجتمعون في حديقتنا أيام الجمع، نلعب معا حتى المساء. حاجي بوداك جارنا الذي خلفنا كان له ولد بنفس سني، وكنت أحب اسمه: ميصطك! كنت أتلذذ بتكرار هذا الاسم، كان ملائما وله صدى كبير.
عندما ترى البنات ميصطك في الحديقة والشارع كانت تردد معا كلمات مقفاة هن اخترعنها، ما زلت أذكرها حتى اليوم:
مصطفى ميصطك
أرابايا كيصطك (حجزناه في العربة)
اوچ موم ياقتك (أشعلنا ثلاث شمعات)
سايرينه باقتك (راقبناه)
ويقفن أمامه بقبضات أياديهن. ميصطك لم يكن يغضب، كان يضحك. كنا نحن نكرر هذه المقفاة أحيانا، ونستمتع.
هذه المقفاة القصيرة أثرت أيضا على أفكاري، في احلامي كنت أرى عدة بنات وقحات يحتجزنه في عربة مهاجرين كبيرة، يشعلن ثلاث شمعات حوله ويراقبنه. لماذا كان ميصطك ساكنا هكذا؟ لماذا لا يفز من مكانه ويصفع البنات عدة صفعات وينجو من العربة ذات الرائحة العفنة المحتجز فيها؟ هو كان الأقوى بيننا، كل شيء فيه كان دائريا مثل اسمه، رأسه، ذراعاه، رجلاه، جسده... حتى يداه...
كان يهزم كل الأولاد في المصارعة، في الصيف، كل صباح جمعة كان يحضر حزمة كبيرة من الأغصان، كنا نعمل منها أحصنة، نلعب الرماح ونتسابق. كان ميصطك يسبقنا جميعا في السباق، لم يكن أي منا يستطيع الإمساك به.
وفي أحد هذه الجمع، جاء ميصطك بأغصانه، اخترت أنا أطولها، ووزعت الباقيات على الأولاد، كنا نقطع ذوائب هذه الأغصان بوسطة مشرط، ونعمل من لحائها أذنان وأنف ليشبه رأس الحصان بالضبط، أنا كنت أمهرهم في هذا.
كنت أعمل حصاني، وكان ميصطك وبقية الأولاد ينتظرون دورهم، لا أدري كيف حصل، انشق لحاء الغصن قبل الوصول إلى المفرق، فجرح المشرط الساحل سبابة يدي الشمال، بدأ الدم الأحمر اللزج بالسيلان، تذكرت حينها شيئا: التعاهد! نسيت ألم أصبعي وقلت لميصطك:
- هيا، ما دامت يدي قد انجرحت فلنصبح أخوة دم، هيا اجرح أنت أيضا!
تردد ميصطك، حملق بعينيه السوداوين في الأرض وهز رأسه الكبير المستدير:
- معقول! هل يجب جرح الذراع من أجل التعاهد؟
لكني أصررت وأنا أقول: - ما الضرر في هذا، أليس كله دم سواء من السبابة أو من الذراع؟... هيا هيا...
فوافق وجرح ذراعه بالمشرط الذي أخذه مني، وكان جرحه أعمق، كان دمه غامقا جدا لدرجة عدم السيلان، قطرة واحدة تنتفخ وتكبر، خلطتها بدم سبابةي وبدأت المص أولا، كان شيئا مالحا ساخنا، ثم قام هو بمص أصبعي.
لا أعلم كم مضى من الوقت منذ أخوة الدم بين وبين ميصطك، ربما ستة أشهر وربما سنة، كنت على وشك النسيان، كنا نلعب أيضا ونحن عائدون من المدرسة إلى البيت.
كان الجو حارا جدا، الأستاذة الكبيرة صرفتنا من نصف النهار، كنت أسير مع ميصطك على مهل بين غبار الطريق، كنت قد وضعت منديلي على رأسي، كان وجهي يتصبب عرقا لأني لم امسحه، كنا نعبر من طريق كبير واسع، كان على الجانب أساسات جدار متهدم، فجأة خرج علينا كلب أسود ضخم، كان يركض باتجاهنا، يلاحقه عدة رجال بعصي غليظة، كانوا يصرخون: اهربوا إنه يعض
خفنا، احترنا وتجمدنا في أماكننا. جمعت نفسي أولا وقلت: هيا لنهرب! لكن الكلب ذو العيون اللامعة كالنار كان قد وصلنا، صاح ميصطك: اختبئ خلفي.. ووقف أمامي
هجم الكلب عليه، حصل اصطدام قوي في البداية، ثم تحاضنا كالمصارعين، وقف الكلب أيضا على قدميه، تعاركا قليلا هكذا ثم سقطا أرضا، كان هذا العراك طويلا بالنسبة لي، كنت أرتجف، وصل الأعمام بالعصي، وانهالوا على الكلب ضربا بكل قوتهم، نجا ميصطك، المسكين كان الدم ينزف من ذراعيه وأنفه. أما الكلب فقد وضع ذنبه بين ساقيه وفر ورأسه في الأرض.
كان ميصطك يقول: لا يوجد ما يهم، لا اتوجع، خدوش فقط.
أخذوه إلى بيته، ركضت فورا إلى بيتنا وحكيت الحادثة لأمي.
في اليوم التالي لم يحضر ميصطك إلى المدرسة، ولا في اليوم الذي تلاه، فقلت لأمي دعينا نذهب إلى بيت حاجي بوداك ونرى ميصطك فقالت:
- إنه مريض يا بني، ستعلبون مرة أخرى عندما يشفى، عيب أن نزعجهم الآن
فيما بعد كنت أذهب كل صباح على المدرسة على أمل أن أجد ميصطك وقد تعافى، لكن مع الأسف لم يأت مطلقا، كان الكلب مسعورا... أخذوا ميصطك إلى (باندرمه) من أجل العلاج، ومن هناك كانوا سيأخذونه إلى إسطنبول... لكننا سمعنا أن ميصطك قد مات!...
حين أستيقظ باكرا في الصباحات الصافية، ككل إنسان أتذكر طفولتي. أردت استذكار مسقط رأسي الذي يعتبر بلد حمرة الشفق البنفسجي الأول في الذكرة. دائما ولا شعوريا أنظر إلى سبابة يدي الشمال، أثر هذا الجرح الصغير الذي يظهر اليوم كخط أبيض فوق القسم الأول لسبابتي يعتبر مقدسا جدا بالنسبة لي.
أخي البطل الذي مات من أجل عهده أشعر بشفاهه الدافئة مرة أخرى على أصبعي، وأرى طيفه كأسد شهم يقارع كلب صيد أسود ضخم ومسعور أكبر منه من أجل إنقاذي.
عمر سيف الدين
ميصطك يقابلها (درش) في اللهجة المصرية