صابر (قصة قصيرة)
_______________
يتأرجح العصفور على سلك المصباح، ينشد لعصفورته أنشودة المبيت، تتوافد نسمات الربيع تداعب الأغصان الوارفة خلف النافذة، تنثر في الغرفة عبق اخضرار السنابل، تتربع شمس الأصيل على الملاءة الحمراء، تذيب ثلج سنين الوحدة من وسادة صابر الخالية.
يهندم جلباب زفافه، وهو شجي بالعصفورين وهما يسويان نومتهما في فجوة من سقف حجرته الخشبي، منشرحا بهما، ومسترحما.. كأنما يريد أن يتلطف بهما، ويهيئ لهما مخدعا طريا. وقبل أن يرتدي طاقيته الصوف الجديدة، راح يقلب في رأسه بعض شعرات بيضاء، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة ملبدة بالعبوس.. وسرعان ماتجاهل هذا الأمر، محتسبا هذا البياض وقارا ورسولا.. ولما فرغ من هندامه ولمساته الأخيرة؛ بدا له مظهره مناسبا وأنيقا.
أسئلته على نفسه تطارد أفكاره: يا ترى ما شكل عروسي.. ملامحها.. ما شعورها تجاهي...؟ يلعن تقاليد بلدتيهما...!! يتساءل ويتساءل...؟ حتى انقطع عن شروده فور سماع صخب الموكب، فالتفت مسرورا.. ليتتبع قدوم الهودج المتبختر على الطريق الترابي؛ المحصور بين ترعتين؛ ما أجمله وهو يتمايل مع رقصات الأشجار، وما أطرب قعقعة السواقي وهي تتناغم مع ضرب الدفوف، وما أبهى غانيات الريف وهن يرقصن البلدي على استحياء..
يتدانى الهودج.. يقترب من سور حديقته.. ترفع الناقة عنقها الطويل، وتشمر أشلافها الغليظة، فتتكشف أسنانها الكبيرة.. وفي التو تتزايد الجموع، ويمتلئ الفناء قبالة الدار بالكبار والصغار، ويمتلئ الفضاء بزغاريد النسوة، ورصاصات مدافع الشبان، فيندلع جلبا مبهجا، يكاد يفجر سكون وحدته، ويحرره من حصار الصمت، ويذهب به إلى حصار مشاعره.
انفرجت أستار الهودج، تبعها على الفور انفراج شفتيه، وانبهار عينيْه، وانصهار خلجاته.. عيناه تخترق الزحام، تترقبها وهي تتدلل بخطوات غزالة.. ولما لامست أقدامها اخضرار بستانه، تابعت السير على استحياء، متجهة نحو البهو المتلألئ، وصوب عينيه اللامعتين في ضوء أنوثتها المتدفقة.. تلك العينان التائهتان عن مفاتن الأنوثة لسنين وسنين.. وفي لهف.. تطل روحه من جسده، متعجلة لترمي وثاق العنوسة تحت أحذية الزحام، ولترحب بقدوم الأنس والسكينة، على بوادر اعتناق الروح بالروح.. ويبقى جسده مشتعلا حتى تطفئه جرعات الأنوثة الماثلة أمام عينيه في قوامها الممشوق.. وعلى استعجال منه راح يشربها ــ عن بعد ــ جرعة واحدة، يعيدها جرعة بعد جرعة.. ثم وقف قليلا على الليل النائم في عينيها.. وتزحزح إلى شفتيها القانيتين، الذي كاد أن يشعلهما وهي على شفة التلاق.. بينما هي على خطوتها الأخيرة، تفكك دلالها بين ذراعيه، مثلما تفككت بقايا أعصاب ساقيه من وقفته القصيرة، فخر على الفور جالسا متعبا.. فتسمرت فرحتها، وعيناها تحملق بشدة في كرسيه المتحرك .
___________
عبدالله عيسى
الثلاثاء: 2/ 12/ 2014