زيارة منتصف الليل
1
في مساءِ يومٍ شِتوي بَللت فيه قطرات نافذتي المُطلة عل باحةِ الدارِ الواسعة والتي وضعت سرير نومي تَحتها، كُنت أشاهد الغَبطة المُفرطة على وجوه أخوتي الصغار وهم يشاهدون أفلام كارتون في بيتنا لأول مرة، لم يكن ذلك اليوم كباقي الأيام، يوم لن أنساه في حياتي وأعتقد كان الجميع من أخوتي وأخواتي قد حفر ذلك اليوم في ذاكرتهم، كنت أتابع أخي الصغير وأختي الصغيرة وهما يتابعان أفلام كارتون حالما بدأ البث التلفزيوني والذي يبدأ عادة مساء كل يوم وعلى قسمات وجهيهما دهشة وفرحة لا تضاهيها فرحة، إنه اليوم الذي دخل التلفزيون لبيتنا بلونيه الأبيض والأسود، كنت قد اشتريت ثلاجة وتلفزيون من جمعية الموظفين بالتقسيط المريح، كان ذلك بعد مُباشرتي للوظيفة بثلاثة أشهر فالراتب حينها كان مجزي قياسا للأسعار السائدة، حينها كانت الرقابة الحكومية صارِمة تَحذف كُل ما يَخدش الحياء من لقطات الإغراء والاحتضان والقُبل وما بعدهما!!.
دب النعاس في الجميع وهم يتابعون التلفزيون، والدتي فرشت لهم فراش نومهم حتى داهمت الجميع غفوة عميقة، دسست نفسي بين اللحاف بعد أن أغلقت الباب الخارجي والداخلي واطفأت أنوار البيت إلا مصباح في فناء الدار، في العتمة تحلو مناجاة السماء بهدوء خارج صخب العمل المشوشة للأذهان، ترحمت على والدي فمنذ وفاته حينها انقطعت عن الطعام لفترة، كنت على مشارف الجنون فرغم أني أعي باني أكبر أخوتي ولكني وجدت نفسي في حيرة من أمري وعندي بعد نظر للثقل الذي سيترتب عليه فقدان والدي رغم حداثة سني، استجمعت شتاتي، يرافقني شعور وكأن الموت تحت وسادتي حينا أنام وأمام عيني حينما أفيق، وأنا في غفوتي العميقة رنَّ جرس الباب الخارجي بتكرار سمج، نهضت بسرعة خوفا من ايقاظ أخوتي وهم في غفوة عميقة بعد ساعات سعيدة لمشاهدة التلفاز لأول مرة، الساعة قاربت منتصف الليل، نهضت إلى الباب متثاقلاً يغالبني النعاس، فتحت الباب الداخلي واسرعت للباب الخارجي وما أن فتحته سرت في جسدي رعشة ووجدت ساقاي بالكاد تحملاني، والدي بشحمه ولحمه وباللباس التقليدي له وهو الغترة والعقال العربي والقميص والبنطلون ومعه امرأة لم أتبين وجهها وهي قصيرة القامة لم تبدي أي حركة أو تنبس بكلمة، جمعت رباطة جأشي وتجرأت وأنا أسأله بدهشة
- والدي إنك متوفى
علت وجهه ابتسامته المعهودة التي لا زلت اتذكرها وهو يدخل الدار دون أن يصافحني أو يلمسني
- افسح لنا الطريق فزيارتنا قصيرة
تبعته والمرأة تسير خلفه، جلس على سريري، فتح الشباك المطل على باحة الدار، كنت أقف مشدوها أمامه
- هل ايقظ والدتي وأخوتي
رد عليَّ ببرود لكنه ارفقها بابتسامة
- لا، لأنهم لن يستوعبوا الموقف، جئت لأراكما، ربما هي الأولى والأخيرة وليطمئن قلبي، نظر إلى وعينيه تشع حنانا وهمس بصوت خافت
- بارك الله فيك، لقد كنت بارا
نهض من مكانه ونهضت معه المرأة التي رافقها الصمت طوال الجلسة ولم اشاهد وجهها واشار لي أن أفسح له الطريق للخروج، عند الباب الخارجي وأنا أعيش خارج التغطية رجوته أن يوصله جيراني الذي يملك سيارة، ضحك وقال لي
- عد لفراشك، فأنا أعرف طريقي
2
فجأة وجدت نفسي على سريري، نظرت للشباك وإذا هو مفتوح على مصراعيه، أسرعت للباب الداخلي ووجدته مفتوحا، هرولت للباب الخارجي وإذا هو أيضا مفتوح رغم أني متأكد من إغلاقه عند نومي.
في الصباح لم انتظر صحوة والدتي وأخوتي وأسرعت لشقيقتي الكبيرة من أبي أم فارس والقريبة منّا لأقص عليها ما رأيت وأخبرتها عن المرأة التي بصحبته، نزلت من عينيها الدموع واحتضنتني بقوة
- إنها والدته التي ربته وهو يتيما بعد فقدان زوجها في حرب البلقان وفتوحات الدولة العثمانية وما يسمى (بسفر بر)، هي جدتك وجدتي، فلتكن والدتك برفقتك كما كانت دائما والدته برفقته