الفسائل والنخلة
(1)
شومان في كل مراحل دراسته كان هو الأول على اقرانه، وفي كل مرحلة نجاح يأخذه والده الميسور لكاهن القرية بطليموس مع هدية مادية ليبارك له النجاح ويدعو له أن يكون الأول في المرحلة الدراسية القادمة، كان يسأل في قرارة نفسه لماذا والده ينسب سبب نجاحه للكاهن من خلال الدعاء له وهو الذي سهر الليالي ومن خلال تصميمه كان ينجح في كل مراحل دراسته بتفوق، يا ترى هل حقا الكاهن هو سر نجاحه؟
ذات مرة تجرأ وسأل والده:
-والدي لماذا ندفع ثمن نجاحنا لهذا الكاهن والجهد جهدنا؟
كان هذا السؤال كوقع الصاعقة على والده، وبنبرة حادة نهره قائلا:
- من أين جئت بهذه الأفكار المنحرفة، إذا سمعتك ثانية ستجد مني لا يحمد عقباه، ليغفر لك الله زلتك
كان جواب والده كافيا ليخرسه لكن تلك التساؤلات بقيت عالقة في ذهنه، هذا الهاجس وتلك التساؤلات زرعت الحيرة في دواخله، ودائما ما يحدّث نفسه: نحن بعرق جبيننا نزرع وبجهد نحصد والكاهن يتلقى ثمن نجاحنا، نال شهادة البكالوريوس ومن ثم الماجستير ومن ثم الدكتوراه بامتياز، رغم تفوقه لكنه لم يفارق عادته التي تعلمها من والده المتدين لينعّم من تبريكات الكاهن، رغم موت بطلميوس ليحل محله الكاهن يوليوس المتشدد وليزيد من هداياه له، صديقه سبستيان من المقاطعة الأخرى وزميل دراسته الجامعية الذي ترك دراسته لضيق الحال، دائما ما ينتقد صديقه شومان على هذا السلوك لأن الكاهن ليس من بلده إنما مبعوث رسولي من الكهنة ومن دولة وموطن آخر يحمل جنسيتها وتبعات الولاء لها مما يتعارض مع الهوية الوطنية ويجعل الولاء عابرا للحدود، نعم قد يكون هناك استثناء ولكن ليس دائما، ما يردده سبستيان أمام صديقه شومان أنه يؤمن بالرب ورسله فقط لا غير لأنه حسب ما يعتقد هو أن لا قدسية للبشر ، صديقه يوافقه الرأي في السر لكنه لا يستطيع ذلك في العلن، سبستيان شقي متمرد يختلف معه في الرؤيا للحياة وطريقة الإدارة، الكهنة والقساوسة يضعون هالة القدسية الربانية عليها وبالتالي تكون ملزمة وحاكمة ويجيرونها لمصالحهم الدنيوية الضيقة، صديقه شومان دائما ما كان يرده بانه تربي على ذلك وتطّبّع على ذلك فلهذا فهو يشعر بتفائل لزيارته للكاهن وتقديم الهدايا له ، انخرط شومان في العمل السياسي وكان شخصية محترمة من قبل الجميع لنزاهته واخلاصه ومدى صحة اخلاصه للوطن، كذلك انخرط سبستيان في حزب سياسي ولشخصيته المغامرة التي تصل أحيانا لحد البطش بمخالفيه بطيش وافراط ، لكنه مع ذلك يمتلك رؤيا وطنية مشابه لشومان لكنها تختلف في الولاء فتقدم الصفوف، عينه حاكم الجزيرة حاكما للمقاطعة ليكون الرجل الأول والحاكم المطلق فيها بدون منازع وصار الجميع يخشاه ، في أول اختبار له وضع عالم فيزيائي لكنه وجودي العقيدة عميدا للجامعة وعندما اعترض عليه الكهنة والقساوسة ورجال الدين، أجتمع بهم وقال لهم مهددا : وضعت الدكتور جبارتيوس عميدا لجامعة علمية وليس كاهنا لكنيسة ، سلطتكم دعوية ومكانكم الوعظ في الكنائس وليس في شؤون الدولة وادارتها، ادارة الدولة تتطلب ذوي اختصاصات وليس وعّاظ، سأقطع رأس من يقف أمامي في شؤون أدارة الدولة كائناً من يكون، خرج منهم وهم في ذهول مما سمعوه، وشاءت الأقدار أن ينصب حاكم الجزيرة الدكتور شومان حاكما للمقاطعة التي يسكن فيها وهي مجاورة لمقاطعة صديقه سبستيان، الدكتور شومان وهو الرجل الصالح ومن أسرة ميسورة عارض توجهات صديقه الدكتاتورية وقراراته الفردية القاسية، وهو يؤمن بالتعددية والاصلاح لكنه دائما ما كان يصطدم بعدم موافقة الكهنة ومجمع القساوسة وتابعيهم من الساسة لبعض قرارته فيلغيها مرغما مما يجعله مكبلا لا يقوى على اتخاذ قرار حاسم، سادت الفوضى مقاطعة الحاكم شومان، غاب القانون المركزي واصبح بديله قانون القساوسة والكهنة والفوضى، بالمقابل، مقاطعة الحاكم سبستيان سادها الأمن والأمان وكان فيها القانون له القول الفصل، فرضت هيبة القانون من خلال المؤسسات الأمنية التي جعلت المعيار هو المواطنة والسلوك السّوي، إلا أن القساوسة هنا وهم يرون زملائهم في مقاطعة شومان يسيطرون على المقاطعة لا يعجبهم تصرف الحاكم سبستيان بتحجيمهم وحصر دورهم في دور العبادة فقط، شكل القساوسة حركات عقائدية مسلحة مناوئة له بشكل سري، زملائهم في مقاطعة شومان مدّوهم بالسلاح رغم الخلاف العقائدي الذي بينهم، وبدأت التدريبات العسكرية تجري بشكل سري في صحراء المقاطعة على قدم وساق، لم يكن الحاكمان في غفلة عما يجري، مشكلتهم كانت الأكثرية التي تتبع القساوسة هنا وهناك نتيجة الجهل المتراكم والتاريخ المشوه، المعادلة صعبة في المنازلة لو قرروا أن يخوضوها فكلا الطرفين وإن اختلفوا في الظاهر ولكنهما متفقين في السلوك والهدف، إنهم يخطفون الوطن والعقيدة، لم يكن في ذهن أحدهما الاستعانة بقوى خارجية فقد ذاقوا مرارتها رغم معرفتهم بطموحات من يمول الجهتين المتطرفة من القساوسة
في اجتماع سري عقد بينهما سأل صديقه سبستيان
- ما العمل صديقي؟
- مالم نضع هؤلاء القساوسة في كنائسهم دون أن يخرجوا منها لن نستطيع توحيد الجزيرة ولا حتى توحيد المجتمع ليكون الولاء للهوية الوطنية فقط
- كيف يا صديقي
- في مقاطعتي لا أعاني من هذا، القضاء على المجاميع المسلحة عندي سهل جدا ما أن قطعنا حبل المشيمة بينهم وبين قساوستكم والخارج ولكن القساوسة اللذين عندك يغذون الفتنة ليظهر عندنا قساوسة مثلهم وبالتالي تقسيم المجتمع وهم محميين بشكل رسمي عندك وعندي منظمات مجرمة خارجة عن القانون وهذا هو الفرق، لقد باتت تظهر عندنا مجاميع مسلحة تكفرني وتكفركم كما عندكم وهذا هو الخطر الكبير
2
في جلسة خلوة وصريحة بين شومان وسبستيان فاجأ شومان صديقه وهو يقول له :
_ لا أستطيع مسك زمام الأمور ولست الرجل الأول، القساوسة واتباعهم من الساسة هم من يتحكمون بزمام الأمور
رد عليه وهو ينظر له بجدية
_ صديقي العزيز لن تكون الرجل الأول لا أنتَ ولا غيركَ يستطيع دون أن تضع القساوسة والرهبان في مكانهم الصحيح ودورهم الذي ينبغي أن يكونا عليه، وهي الموعظة والنصيحة فقط، التفاصيل والقوانين الوضعية متروكة للبشر
بعد أن أخذ زفيرا عميقا أكمل
_ مشكلتنا المجتمع وليس السياسيين والقساوسة فقط، أن غياب الوعي المجتمعي هو من يعطي قوة وشرعية للقساوسة والساسة
وافقه الرأي شومان وهو معجب بسريرة نفسه وبعقلية صديقه واستقلاليته واجابه
_ أتفق معك كليا، ترى ما الحل برأيك؟
_ أسمع صديقي وبدون تنظير، نؤسس لقوة نخبة عسكرية مختارة ونؤسس مجلس اتحادي وشخصيا إذا وافقت سأقود هذا التحول، فبدون المباغتة والتصرف السريع لن نربح وحدة الجزيرة
- والأكثرية وهي منقادة للكهنة
- الأكثرية مسجونة صديقي في عقليتها الفكرية الضيقة، لقد جربنا نهج القومية والأممية والطائفية وجميع هذه المناهج والتنظيرات تتنافر مع الهوية الوطنية، نحن لسنا ضد القومية ولا ضد التدين والطائفة فهذه فرعيات، لكننا مع الهوية الوطنية الجامعة، لو انتظرنا الوعي المجتمعي أن ينهض ولن ينهض لوجود هذه المؤثرات فسنخسر حتى الطبقة المثقفة الواعية
- ولكن لا تنسى هناك بعدا اقليميا لهم، ربما الدعم الدولي واللوجستي والاقليمي والأخير هو الأكثر فاعلية
- في ساعة الصفر سنغلق الحدود، نحن جزيرة ومن السهل مراقبة وغلق الحدود والممرات، من في الداخل عراقيين إلا الرؤوس فهم لهم تبعية فكرية وعقائدية وعندما نضع الرؤوس في السجن سيعود الجميع لبيوتهم
3
بسرية تامة تم اختيار القادة الميدانيين وانتقاء الأفراد وشكلوا قوات نخبوية تدربت في صحراء الجزيرة وحددوا ساعة الصفر.
في ليلة مقمرة تحركات قوات النخبة لألقاء القبض على رؤوس التطرف في كلتا المقاطعتين، بنفس الوقت تحركت قوات مختارة لغلق الحدود مع الجميع لكونها جزيرة يسهل عزلها عن محيطها الخارجي
ساعات وعاد الهدوء للجزيرة واعلن شومان عن توحيد الجزيرة وشكل بمرسوم مجلس قيادي منه ومن سبستيان وباركه حاكم الجزيرة.
في غضون أسبوع شرّع العيد الوطني والنشيد الوطني ورفع العلم الجديد للجزيرة وأضيئت منارتها لتنعكس على البحر المترامي الأطراف لتعلن عن دولة موحدة بهوية وطنية
 |
آخر المواضيع
|
|
|
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية حررها مصطفى الصالح
