مــــــربّــى السّـــــــــفــرجـــــل
.. حلُمت بك،
ستُخبره يوما ما بذلك و لكن ليس الآن !
" ما دُمت لست واثقة لم تُعذّبين نفسك ؟ سيفتِك بك هذا الحب الجارف يا غبية "
ربما الغباء يرقُد بين جفني العشق، لا يبرحُهما حتّى لو ذرفنا ملء العالم دموعا..، حرّكت رأسها كمن يريد أن ينفُض
غبار الأفكار المزعجة، الحب قيمة بذاته، هكذا تؤمن.
" ابتسمت باستهزاء و هي تتربّع فوق رأسها قائلة ببرود : حسنا و ماذا أيضا يا عاشقة " الغلبة*".
تجاهلتها، و تذكّرت بيتا من الشّعر لابن الأحنف، قرأته مرّة و ظلّ عالقا في رأسها،
" لأخرجنّ من الدنيا و حُبُّكُمُ .. بين الجوَانِحِ لم يَشعُر بِه أَحدُ "
سمعتها تقهقهُ، شِعر! و منذ مَتى كنت تقرئين الشّعر؟
أفيقي يا مجنونة و لتخلعي عنك خِرق الأوهام، لتلبسي من حرير الواقع .. مكر واضح صبغ كلماتها.
دُون أن يرمِش لها جَفن، ظلّت على هيأتها و قد غرقت في تفاصيل اللّوحة المعلّقة قُبَالتها،
"الرّسم فنّ مزج الألوان بالأساس أمّا دقّة التّصوير فلا تعدو أن تكون أمرا ثانويا"
هكذا كان يردّد أستاذها في الرّسم..
انتبهت، و أخيرا تلاشى الصّوت، بالنهاية يبقى ضعيفا هشّا و لكنه مع ذلك عنيد لا يملّ الظهور بين الفينة
و الأخرى لا لشيء إلا ليعكّر مزاجها، يعرف كيف يتصيّد لحظة سعادة عابرة، تكون فيها قد بلغت حالة من الرضا و قاربت تُخوم
الحسم.
بالرغم من تلاشيه، نجحت في النموّ بين ثنايا الأحلام أغصان الشكّ المريب، التي و بمجرّد تمدّدها يرنّ الهاتف، لتختفي
فجأة و كأنّها من صنع ساحرة الأساطير، كان هو على الخطّ، أنقذها كالعادة و لكن لم تكن لتخبره،
بصوت لطيف لا يخلو من عمق، انطلق في السّؤال عنها و عن أحوالها، كان الوقت عصرا، انساب تغريد العصافير بسلاسة عبر الهاتف،
" إنّها الطّيور المهاجرة "، قال مجيبا عن استفسارها.
تمتمت في سرّها، لا شيء أكثر من أحلامنا يهاجر في هذه الحياة !!
تذكّرت طلب الهجرة الذي قدّمه، دخلت مباشرة في الموضوع سائلة إياه
- هل تلقيت الردّ من السفارة ؟
- نعم،
كخبيرة أصوات جاهدت لمعرفة النّتيجة قبل أن ينطق بها، ربّما في محاولة يائسة منها لتخفيف الصّدمة، لكنها أخفقت
و وجدت نفسها تسأله بحذر
- اه و ماذا كانت النتيجة ؟
- لقد قُبل الطّلب، مازلت لا أصدّق..
ردّه الهادئ دفعها لتخمّن أنه قد يتعمّد أن يغلّف كلماته باللامبالاة حتى لا تكتشف أي شيء ممّا يعتمِل بداخله تجاهها.
"و من قال ذلك ! قد لا يحمل أي شيء تجاهكِ أصلا، " قالت بمكر و هي تطلّ من جديد.
هو، يواصل حديثه قائلا،
- تتراكم سنوات العُمر كأكوام الملابس المهيأة للطيّ، لا نشعر بها أو فيها بشيء سوى اللّهاث وراء الإنجازات،
نحقّق منها شيئا لتتكوّم هي الأخرى كأزواج الأحذية على رفوف الخزانة..
ابتسمت، تشبيهاته هذه المرّة لا تصدر إلا عن ربة منزل حاذقة، هو كذلك، عاش فترة طويلة لوحده و كان يعتمد على
نفسه دائما.. و قد نجح إلى حدّ كبير.
- لِمَ تقول هذا الكلام الآن؟ كأنّك غير متحمّس للسّفر، بعد كل الذي حصل معك!
- لا بالعكس، و بالنهاية تلك الظروف و كما تعلمين هي التي اضطرتني لاتخاذ هذه الخطوة .. أشعر أنني بصدد طيّ
صفحات الماضي، لا لن أطويها بل سأمزقها و أبدأ بالكتابة في دفتر جديد، أخيرا سأتنفس هواءً نقيا، و أمشي
بخطوات مطمئنة و ثابتة ..
تابع حديثه، بينما تسمّر عقلها في مشهد تمزيق صفحات الماضي، شعرت بضيق.. تعلم أنّه لا يعنيها بكلامه
و لكن بالنهاية، تبقى سطرا من سطور الماضي الذي يعلن أنه قرّر بتره من حياته.
- مازلت معي ؟
- أي طبعا، هيّا أخبرني، هل تحتاج أي مساعدة ؟ قل لي ربما الوقت لن يسعفك لقضاء كل ما يلزمك ..
- لا شكرا، استكملت جلّ الأوراق و حضّرت قائمة بكل المستلزمات بقي شيء واحد فقط لا يمكن ان أتنازل عنه
كما تعلمين .. ظلّ ابتسامته الوادعة لاح لها عبر الصوت القلق.
بحيويتها المعهودة ردّت،
- اطمئن أنا و أمّي حضّرنا لك كميّة مضاعفة حتى تبقى معك لأطول فترة ممكنة، ثمّ أضافت بمكر ، عسى
أن يثمر فيك الخير و تعرف كيف تسوّق له في ربوع كنـــــــدا، فنتمكن على يديك من تصديره يوما
و لك نسبة من الأرباح يا سيدي، لا تخف
ضحكة مجلجلة أفلتت من قبضة توتّره، ارتاحت لسماعها، و أقفلت الخطّ و سؤال يلحّ عليها،
هل في زمن بن الاحنف كان هناك مربّى السّفرجل!؟