الدفء المفقود
1
ما أن شعرت أن الحياة تدب بي وبدأ قلبي بالنبض حيث تعودت العيش في الظلمة والتغذية والتنفس من حبل مدود لصرتي وفي بحيرة ماء تغلفني، لا أدري كم لبثت حتى شعرت أني أخرج على حين غرة، قطع الحبل، ينهكني الجوع في الساعات الأولى، شعرت بعدها ما يدخل فمي، ليست عندي حاسة الشم سوى من حضن منه يتسرب الدفء لجسدي، وليست عندي حاسة الذوق سوى ما دخل فمي بعد ساعات من خروجي للفضاء الواسع من حلمة ودون دراية رحت الثمها، لم اتعود على النور فقد كنت أعيش في ظلام دامس، شعرت بالضوء حولي لكني لا استطيع أن أفتح عيني، وإن فتحتها لا أرى شيئا، شعرت بالاطمئنان لأن ذات الرائحة وأنا في الرحم ما زالت أشمها وأنا خارجه منه بشوقٍ جارف.
مضت فترة بدأت أشعر بسطوع الضوء من حولي وبدأت أرى بتشوش الأشياء من حولي، الصورة الأولى التي طبعت في ذاكرتي هو وجه من منحني الدفء في الرحم وخارجه ومن يشبع جوعي.
2
فجأة وجدت نفسي في مكان آخر، فقدت الدفء وأصبح كأنه دفء بارد لا أشعر به، أعيش برودة دائمة، الرائحة التي تعودت عليها في الرحم وخارجه فقدتها، ذائقتي غادرتني، لست أدري ما السبب حينها، بدأت أشعر بالوحشة وتنتابني نوب بكاء حادة حينما أفتقد تلك الرائحة، لم اشعر بذلك اللحم المتكور الذي يدخل فمي ومنه يخرج ذلك السائل الذي له طعم ومذاق خاص قد فقدته، ما يدخل فمي شيئا غريبا ليس له رائحة ولا أشعر بطعمه، كبرت قليلا وبدأت أتلمس الأشياء حولي، عرفت لأول مرة أني أسمي باسم، الجميع هنا يحاول ارضائي فوالدتي لا تفارقني أما والدي فقد اصبحت شغله الشاغل، امتلأت غرفتي بلعب الأطفال والدمى، كنت قليل البسمة شحيح اللعب، ما أن كبرت أدخلني والدي في روضة راقية مستوحاة من المدارس الألمانية ومن الخوف عليَّ كانت والدتي هي من توصلني للروضة وتعود لتأخذني عصرا بعد أن رفضت تسجيلي في باص المدرسة لنقل الطلاب من وإلى بيوتهم.
ذات مساء خرجت مع والدي إلى أحد (المولات) الكبيرة في بغداد تحضيرا لعيد الفطر، أخذتني عاملة البيت (أكزز) وهي كينية من أفريقيا إلى قسم لعب الأطفال بينما والداي ذهبا للتسوق، بجانبي جاءت فتاة مع والدتها و(أكزز) تساعدني في ركوب الأرجوحة بينما راحت والدة الفتاة تحاول ركوب أبنتها الأرجوحة التي بجاني، نظرت إليها ولا أدري ما الذي جذبني إليها، لقد شممت رائحة تسكن ذاكرتي قريبة مني، رأيت والدتها تحلق في وجهي بذهول غريب أخافني، اقتربت مني ومسدت على شعري
- ما أسمك صغيري
نظرت ل أكزز ثم نظرت إليها وقلت بصوت خافت
- بسام
الرائحة التي في ذاكرتي ملأت الأجواء حولي ما أن أقتربت المرأة مني، وجدت المرأة تهرع إلى رجل الشرطة ولست أدري ما الذي قالته، لكنني لم أرتكب خطأ، فجأة تجمهر الناس والشرطة حولي، من بعيد شاهدت والدتي ووالدي يسرعان نحوي، احتضنتني والدتي وهي تصرخ
- لقد أخفتم الطفل، ما الذي يجري هنا
بهدوء أجابها رجل الشرطة
- سيدتي هناك شكوى من هذه السيدة أن الطفل ولدها
لم أكن أفهم ما الذي يجري، والدتي ووالدي وبعد أن جاء زوج هذه المرأة المدعية ذهبنا لمركز الشرطة القريب، والدتي اصابتها نوبة بكاء حادة وهي تصرخ
- كاذبة، مدعية، لا يصدقها أحد
والمرأة بذات الحرقة تبكي وهي تصرخ
- إنه ولدي، أبدلوه يوم الولادة، أعلم أني ولدت ذكرا لكني وجدت طفلة أنثى بجانبي بعد غفوتي في المستشفى
3
بعد ظهور تحليل الحمض النووي تبين صدق المرأة التي هي والدتي الحقيقية، عدت للدفء المفقود وعادت ضحكتي وتنازلت والدتي عن المرأة التي سرقتني لعامل إنساني لكون زوجها هددها بالطلاق بعد ولادة بنات أربعة دون ولادة ذكر لكن بقينا على تواصل مع هذه العائلة، وبقيت أزورها وكانت تعاملني كولدها بذات الحب وأنا حينما كنت عندها، لكني الآن في غاية السعادة لأني عدت لدفء الرحم