رِحلَةُ المُنْتَهَى
1
في لَيْلَةٍ دَهْماء حدث ما لم يكن في الحسبان، ليلة دَاهِيَةٌ دَهْياءُ حلت علينا، كُنت مع عمي ووالدي في قريتنا المطلة على نهر صغير في واديٍ معشب، كلفنا جدي لحماية القرية مع مجموعة من شبابها لتناهى إلى سمعه بنية العصابة المعروفة بمهاجمتها القرى والمراعي وهم شلة من قطاع الطرق واللصوص والمعروفين بانهم من أشرس لصوص الأغنام والممتلكات من مهاجمة قريتنا ، جدي كان قد ذهب مع قطيع الأغنام ليرعاها ومن ثم ليعود بها، لم يكن معنا إلا مجموعة من سكاكين المطبخ ما عدى جدي فلديه قوس ومجموعة من السهام وسيف ورثه عن أبيه يتمنطق به.
هاجمت هذه المجموعة القرية بشراسة ومن جميع الجهات ومعهم النبال والسهام والسيوف والرماح، انسحب أغلب شباب القرية متحصنين في دورهم، لم يكن أمامنا إلا الخروج من قريتنا المحاصرة، تسللنا من القرية قبل طلوع الفجر لمعرفتنا بمسالكها بعد انسحابنا إلى دارنا، وجدنا أنفسنا في منطقة مهجورة تماماً. دخلنا أحد دور قرية مهجورة في هذه المنطقة. كانت البيوت الخمسة أو الستة حديثة العهد مبنية من الطين وشبابيكها عبارة عن فتحات مدورة صغيرة للتهوية، كانت متراصة مثل منازل القرى المأهولة تطل على فناء واسع لتأتي بعدها بيوت متناثرة هنا وهناك إلا أن الحياة فيها قد اختفت تماما. وجدنا قسم من مخزون الغذاء بعضه طازج نوعا ما، ثلاثة أيام على حالنا هذا ونخاف الخروج من البيت لكننا كنا نسترق النظر من فتحات التهوية المطلة على فناء القرية المترامي الأطراف دون أن نرى حياة فيها، لم نكن نعلم ما الذي حدث لجدي سوى صراخ اللصوص يوم محاصرتهم لقريتنا بالبحث عنه، في فجر اليوم الرابع نهضت على صوت جلبة في الشارع وما أن نظرت من فتحة التهوية القريبة مني حتى شاهدت مجاميع مسلحة تحاصر الدور، أيقظت والدي وعمي بسرعة
- قطاع الطرق واللصوص يحاصرون الدور
أسرعنا بإغلاق الأبواب الخشبية ووضعنا بعض الأثاث المتوفر خلفها، ويبدو أنهم فتشوا باقي الدور ولما لم يجدوا أحدا فيها تيقنوا نحن في هذه الدار، سمعنا صوت أحد اللصوص وهو ينادي علينا
- أخرجوا وسنؤمن لكم حياتكم مقابل أن تدلونا على الخزائن في قريتكم
كانت سمعة هذه العصابة قد سبقت قدومهم، فهم لا يتورعون عن قتل الأطفال والنساء ولم يكونوا من أوفياء العهد والكلمة، توزعنا على مخارج الدار متسلحين بالسكاكين الصغيرة لكن والدي أمرني أن أختبأ ولا أظهر معهم، قبلني وهمس في أذنيَّ
- نريدك أن تبقى حيا من بعدنا
كنت قد تعلمت الرماية بالسهام منذ نعومة أضفاري وصرت أجيدها رغم سني، فأنا أبلغ الرابعة عشر من عمري، التقطت كافة السكاكين الصغيرة المتوفرة في الدار وتواريت متخفيا خلف دولاب صغير، أقتحم اللصوص الدار وبعد معركة غير متكافئة سقط عمي ووالدي واحدا تلو الآخر مضرجين بدمائهم، انتابتني لحظة غضب هستيرية حينما شاهدتهم وهم صرعى على الأرض، خرجت من خلف الدولاب وبسرعة رميت أحدهم بسكين أصابته بعنقه وخر صريعا، ما أن شعروا بي حتى هجموا عليّ ثلاثة منهم، بسرعة وبيدي الأثنين رميتهم فكانت اصابتهم كصاحبهم، من مسافة ليست بعيدة شاهدت أحدهم يرميني بسهم من عنده، رميته بسكين لكني شعرت حرارة في جبهتي ومن ثم شعرت بالدم يسيل على وجهي، خارت قواي وأقترب أحدهم مني وطعنني بالسيف في بطني.
2
أفقت على سكون مطبق حولي، نظرت حولي فلم أرى أحد، تلمست جبهتي وبطني فوجدتها سالمة معافاة، المفاجأة وجدت أن ثيابي قد تغيرت ووجدت نفسي أرتدي ثوبا أبيض لم يكن من ممتلكاتي ولم أرتديه يوما، نظرت حولي لأرى أين أنا، كنت في جزيرة صغيرة تحيطها المياه من كل جانب ومليئة بالأشجار المثمرة، الغريب ليس هناك صدى لأي صوت أو حفيف شجر أو خرير مياه رغم وجودها، على الضفة اليمنى للنهر شاهدت والدي وعمي هناك وهم يرتدون ذات ثيابي، حاولت أن أصرخ بأعلى صوتي لعلهم يسمعونني لكني فوجئت أنهم لا يسمعون صوتي وهو لا يخرج عن نطاق ما حولي، حاولت في أحدى المرات عبور النهر لكني فشلت لعمقه وعرضه الواسع، أدركت أننا لا نرى ولا نسمع أحدنا الآخر وهذه البقعة الصغيرة بمثابة بيت لي كما لهم بيتهم وفكرت ربما لأنني صغير وضعت هنا وليس معهم.
بعد فترة ليست بالقصيرة وأنا أدور في هذه الجزيرة الصغيرة شاهدت رجل مسن وبجانبه عصاه يرتدي ذات ثيابي يجلس على حافة النهر وقد أدار ظهره لي، كأني شعرت بطوق للنجاة لأفهم ما حولي، أسئلة كثيرة كانت تدور في مخيلتي، أسرعت للرجل وما أن اقتربت منه حتى التفت أليَّ وعلى محياه بسمة عريضة فاتحًا ذراعيه، عقد لساني وتسمرت قدمايَّ مكاني، فقد كان جدي