مملكة الحمير
1
الكثير من البشر إن لم نقل أغلبهم يظنون إننا نحن الحمير أغبياء وبلا أحاسيس أو مشاعر بينما الحقيقة التي لا يدركوها هو إننا أذكياء ونتحسس الأشياء لكن والحق يقال هو أن أدراكنا وتفسير الحدث في حينه لا يأتي إلا بعد فوات الآوان ، ترعرت في مزرعة مترامية الأطراف خصبة الأرض وفيرة الحشائش والأدغال التي تنمو على جانبي الأنهر التي فيها، صاحب المزرعة كان قد قسم المزرعة لعدة حقول لزراعة كافة أنواع المحصولات الزراعية ليتمكن في كل المواسم من جني محصولا دائم وبنفس الوقت يربي معنا الأغنام وبعد تسّمينها جيدا يبيعها لقصاب القرية، المزارعون جلَّهم من أبناء جلدته وهم أقرب للعبيد فهو يجلدهم لأي خطأ يبدر منهم، بل أحيانا يكون مصير من يخطأ القتل ويدفن في حفرة أعدت لهذا الغرض وهم مستسلمين له، يخافونه حدّ الرعب، كنّا سعداء لكوننا حمير ولسّنا بَشر أو أبقار وأغنام ولهذا نتحمل سياطه الموجعة لأنها أقسى عقوبة لنا، أما القتل فهذا ما لا يخطر على باله لكوننا أغبياء لا نفقه شيئا مما نفعل كما يتصور، رجل قاسي القلب لحد الإفراط فهولا يتوانا في جلدنا بقسوة إن تباطأنا في الحركة لنقل المحصول إلى المدينة حيث يبيعه هناك، لم يكن مسموح لنا أن نتذمر مهما وضع علينا من أحمال، دائما ما كانت تستنجد بي زوجتي أم جحش دون أن أحرك ساكن لأني إن رفست أو نهقت سيكون مصيري المزيد من السياط، البغل الوحيد الذي كان بيننا ينعم بشيء من الراحة لأن صاحب المزرعة يستخدمه لركوبه الشخصي لخفة حركته وهو الوحيد الذي لا ينال من سياط المالك إلا إلنزر اليسير وإن نال منها فهي خفيفة الوقّع عليه وليس مثلنا حينما يجلدنا بسوطه ولا أدري من أي أنثى من القطيع ولد ولابد أنه جاء نتيجة أغتصابها من أحد الأحصنة الموجودة في المزارع المجاورة بعد تسلله لمزرعتنا خلسة، فقد وجده صاحب المزرعة ذات صباح مرميا في أطراف المزرعة وهو حديث الولادة.
كنت قد اتفقت مع أم جحش على عدم ولادة حمار لنا حتى لا يتعذب مثلنا، وهي في دورة الشبق توسلتني للجماع معها ويا ليتني لم أفعل فقد حملت وولدت لنا ذكرا، كنت أعتصر ألما وهي بعد كل هذا العناء تذهب لإرضاعه، وما أن شبَّ حتى أصبح مثلنا صار ينال ما ينال من السياط وكانت أشد وقعا عليَّ وعلى أمه أم جحش
2
طفح الكيل بنا ولم يعد للصبر من منزّع بعد أن وصل الظلم مداه حينما بدأ سيد المزرعة بذبح كبار الحمير ممن لا يقوى على حمل الأثقال وخلطه مع لحم الأبقار وتم ذلك بعد الإتفاق مع القصاب ليبيعه للبشر، لم يكن في قاموسنا الذبح وأن يقدموا لحمنا وجبة دسمة للبشر، هانَ علينا ما وصلنا إليه وهانَ علينا أن يأكل البشر لحومنا، تداولنا فيما بيننا عن حل يخلصنا من هذه المصيبة الكبرى التي حلت بنا لكن ليست بيدينا حيلة وقوة، فجأة خطرت لأحد الحمير منّا فكرة جهنمية وهي أن نتواصل مع البشر من المزارعين المتذمرين في داخلهم لكنهم بلا جرأة وقوة فقد أدمنوا التهجين والإستسلام فقبلوا بالموت ونحن من يرفضه على هذه الشكل المقيت المقزز، كان أحدهم ومن كثرة الأختلاط بنا قد تعلم لغة النهيق وصار يتواصل معنا وهو من أشار إليه الحمار صاحب الفكرة وكما شرحها لنا: سنرسله لأبناء جلدته ليتفاهم معهم، لا نريد منهم شيئا سوى أن لا يكونوا أدوات لقمعنا ويرفضون أوامر سيدهم ونحن نتكفل بالباقي، أما وعودنا لهم هو أنهم سيتمتعون بالحرية ويجنون محاصيل ما يزرعون لهم ويتبادونها فيما بينهم ويبنون سورا حول المزرعة ويكونوا حراس عليها، أما نحن فلا نحتاج لطعامهم لأننا نعيش على الحشائش والأدغال والفائض من زراعتهم، شروطنا لا أحمال توضع على ظهورنا وتحرم السياط ويحرم القتل ويعيش كلٍ منّا بسلام تحت القوانين التي سنضعها في مملكتنا وشرطنا تسميتها بمملكة الحمير ونعطي مثلا فيها بمراعاة حقوق الإنسان على أن يراعوا حقوقنا ويذعنوا لسلطتنا ويكفوا عن القتل والطمع والجشع واضطهاد بعضهم لبعض ويقتنعوا بما هم فيه من حياة تنعم بالسلام والطمئنينة والعيش الرغيد، علق أحد الحمير على الفكرة قائلا: ماذا لو نقضوا العهد وعادوا يستخدموننا للأحمال، أجابه: في هذا لا عليك فقد استوطن الخوف فيهم وتدجنوا كما الدجاج وجلَّ همهم أن لا يقتلهم أحد وسيكونون سعداء تحت رحمتنا وقوانيننا ولكن حذرهم بأن لا يصل هذا الخبر للبغل فقد يشي بنا، بعد طرح الفكرة عليهم ووافقوا عليها ولكن بشرط وهو أنهم لن يشاركوا بالتمرد وينتظرون النتائج فأن كانت الغلبة لسيد المزرعة فسيكونون معه وإن كانت الغلبة للحمير فسيذعنون للإتفاق هذا. في ليلة مظلمة كانت ساعة الصفر، بدأنا بالنهيق جميعا وتحركنا صوب القصر، كسرنا الأبواب بالرفس ودخلنا لباحة القصر، خرج وهو يصوب بندقيته الرشاشة علينا مع رهط من حراسه ويرشقونا برشقات أصابت العديد منّا لكننا لم نتوقف عن الزحف إليهم حتى داستهم أرجلنا وسقطوا مغشيا عليهم ومعهم سيدهم وصار الجميع يرفسه حتى لفض أنفاسه الأخيرة، كانت جموع المزارعين خارج القصر وما أن شاهدوا سيدهم قد فارق الحياة بعد أن سحبناه للخارج ورميناه تحت أقدامهم ونحن ننهق حتى علت الأصوات مرحبة برحيله ولكن ليس بلغة البشر، فجميع المزارعين صار يهتف للسقوطه ولنا بالنهيق مثلنا