صبر الخشب // زياد السعودي
النص الأصلي
القراءة
فكرة النص كما رأيتها هي ( صراع الوجودية في حياة الإنسان )
فلسفة المعاناة ..
حتى المعاناة لها أوجه كثيرة كما للشر تماما ..
فرغم الهويات الجديدة التي تقلدها البطل ،
رزحت روحه في التيه ،
وأصابه ما أصابه من عمى الألوان
وفقد معظم الحواس الدالة على حياته ،
فوطنه الأصلي لا يقارن بأي وطن فهو يتنفسه في كل شهقة ويندفع عشقه مع كل زفرة ..
ربما كان يمني نفسه أن يتناسى ولكن هيهات لروحه الأبية ،
التي تعلقت بأغصان زيتون الوطن أن تتركه ينعم ببعض حياة أو يندمج بأي شكل كان مع الواقع المرير ..
من وجهة نظري هناك شرطان لتأقلمه البعيد المنال مع البيئة الجديدة :
أن يفقد المنشار شهيته في تقطيع الخشب ،
أو أن يتخلى الخشب عن صفاته : الصمود ، الصبر ، القدرة على تقمص أشكال ينحتها فيه أزميل النجار .. شرطان من رابع المستحيلات أن يتحققا ..
لذا فالاتجاه إلى الجنوب أو أي اتجاه لن يجدي نفعا في احياء روح ماتت لحظة الخروج ..
(بخيبةِ قائدٍ مهزوم مُكتظاً بضجيج الصمت على رجع " خفي حنين " .)
هذه الخيبة التي اعترت البطل ، حدثت لها طفرة نوعية وأمست حالة عامة ليست لدى البطل فقط ، بل لدى الجميع- والآن أصبحت ملموسة بين أيدينا -..
أما خفي حنين ،
فهما الدليل المبين على أسباب الهزيمة ، ( حب الدنيا ، حب الذات ، الوهن ، الظلم ..والخ )
في الحروب أو في الحياة بشكل عام يقع الاخفاق ثم النجاح ثم الاخفاق ثم النهوض وهكذا تدور رحى الحياة ..
تجود تارة وتغدق ، ثم تمنع وتحبس تارة أخرى ..
ولكن الهزيمة النفسية أشد وقعا وألما،
وقلما يستطيع الإنسان أو المجتمع التعافى السريع منها ..
وهنا حبكة القصة وصراعها الدامي
الذي يأكل من عظام ونخاع البطل رويدا رويدا ،
كما يأكل المنشار من صدر الخشب الصبور ..
فالبطل هو نفسه صبر الخشب .
العتبة .. ( صبر الخشب )
كم كانت موفقة وعميقة !: حيث حكت القصة والصراع ووصفت النهاية الحتمية لقدرة واحتمال البطل على التحمل ..
بعدَ أن أدارت المدينةُ وجْهَها عنه ، أدار وجهَههُ نحو جنوبه الحزين وعاد
بخيبةِ قائدٍ مهزوم مُكتظاً بضجيج الصمت على رجع " خفي حنين " .
كأنه فقد القدرةَ على تحديد الالوان وإلا لماذا بدت كل الأشياء في جنوبه باهتة ؟
لطالما كانت أمّهُ خيرَ من يقرأه :
ــ عُدتَ يا بني ؟ مالذي أبْقيتهُ منكَ هناك لأنكَ لستَ هنا !؟
يبتسمُ إذ يقول في نفسه : يبدو أن أمي تقرأ لـ "سارتر" ، يُقَبّل جبينها مُطَمئناً :
ــ سأعود يوما ما يا " ميمة "
يعود بنا الكاتب مرة أخرى لفلسفة الوجودية للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر ،
ومنه وبذكاء شديد يمرر الهدف من ذكر سارتر ،
وهو ( تغذية الشعور بالارتباك وفقدان الوجهة والغاية.. )
واستخدام ذلك في توريط واغراق القاريء في عمق ومعاناة الشخصية المنسوجة في النص ..
.....
الحياةُ في صحراء الجنوب رتمُها أفقي ، يُحاولُ حالماً أن يقيمَ حالةً عاموديةً على أفقيةِ الأشياء
يخرجُ على غيرِ هدىً ، على الحيطان خرابيشٌ ذكرته بمطلع معلقة طرفه بن العبد (الفتى القتيل):
لخِـــــولة أَطْـــــــلالٌ بِبَرْقَةِ ثَهْــمـــَدِ
تَلُوحُ كَبَاقي الْوَشْـــمِ في ظَاهِرِ الْيَدِ
ماتزال فلسفة الوجودية تلقي بظلالها هنا أيضا ، والتي التحمت مع حمى الرغبة
والأمنيات في التغيير ،
وقلب المعطيات رأسا على عقب ،
وقلب عصا الساحر عليه ..
وأيضا يظهر بشكل جلي تأثر الكاتب بالشعر ،
أقول دائما لا يخلو أي نص من ولو جزء ضئيل من شخصية
كاتبه ، معتقداته الأساسية ، تعليمه ، ميوله وطبيعة حياته ..
فالكاتب شاعر ، لذا قام بعملية دمج للشعر بما يخدم الفكرة العامة للنص ..
البطل هنا يبكي الطلل - الفترة الذهبية من شعر العصر الجاهلي -
ويحن للماضي التليد المجيد .. ويتمنى في قرارة نفسه أن يعود ذلك العصر وأن يعود لوطنه .
ببساطة لأن ذلك يعد بمثابة عودة الروح .
فلاحت لهُ خرابيشٌ قديمة :
انتخبوا اسماعيل التخمان ...
فيصلي ما بيروح الا الراية مرفوعة ...
صبرت صبر الخشب تحت المناشير ...
استوقفهُ صبرُ الخشَب
اللاجدوى في أشيائهِ هي المنشار وهو الخَشب في أشياءِ اللاجَدوى
وعلى غير هدىً يجد أنهُ قد عادَ إلى البيت
مرة أخرى يعود بنا لقضية فلسفية تضمنت باختصار شديد :
تساؤلات ، حيرة وصراع بين الأمل واليأس نخرا خاصرة البطل ،
انهكاه ،واستهلكاه ،
ومايزال الكاتب يصدر لنا تلك المعاناة والحالة البائسة لمن أراد أن يصل لها لو تعمق وخاض قليلا
في بحر النص ..
حملَ ضجيجَ صمتهِ ويمّمَ شطرَ قريتهِ مسقطَ رأس أجداده حيثُ تقطنُ عشيرته
رتمُ القريةِ مختلفٌ عن رتمِ صحرائهِ مع أنها في حُضنِ جنوبهِ ، رائحةُ الطوابين تستقبلهُ
ومشهدُ الرعاة وهم يسوقون قطعانهم إلى الماء مستخدمينَ " كوداً " صوتياً يفهمهُ القطيع
يكادُ يكون المشهد الأكثر تشاركيةً من بعض أقلام اكاديمية الفينيق
يبتسم الان كما تبتسمون
وهنا رسم الكاتب بالكلمات الصورة ببراعة .. فقد شممت رائحة الطين ،
وعبق الصحراء ، وسمعت خرير الماء في الجداول الصغيرة ..
رسم بالكلمات للبيئة المحيطة بشكل مذهل عميق ..
كانَ يطلبُ الاشياء وبداخله رغبة لئيمة في أن يخفق ويرتد طلبه إلى نحره :
ــ يا بنات العم من منكن تقبل بجبل بركاني يرتدي حذاءً من قش زوجا لها تدخل به الجنة ؟
تطوعت احداهنّ لهذه المهمة ، كانت فدائية بنكهةِ زهرةٍ بريّة
عاد بها ليُجدّد المحاولةَ في إقامة حالة عامودية على افقية الأشياء
وكيفما اتّفق انقضى ما انقضى من عمره وهو يحاولُ أن يستنسخَ من نفسهِ نفوساً
قادرةً على تجنّبِ الشعور بـ للاجدوى
وشُلّت الزهرةُ البرية وذَبُلت ليعودَ الى :
صبرِ الخشب تحتَ منشار المحن
الى حرثِ الماء تحت سطوة السؤال :
وهنا لحظة الذروة في عداد تنازلي وفك عقدة النص للوصول للقفلة
كنتيجة نهائية : لم يستطع البطل اعادة تنشيط روحه ولم يتأقلم مع واقعه ، فذبلت زهرته وانزوت ( زوجته )
وتوجه شطر جنوبه من جديد في رحلة الحيرة واللاجدوى ..
مالذي أبْقيتهُ منك هناك ..لأنك لستَ في أي مكان !؟
ثم تاتي القفلة رائعة لتعيد نفس السؤال وتعيدنا لدائرة مفرغة ليدعونا من خلالها الكاتب للبحث عن ذواتنا
وعن كنه وجودنا ..
انتهت القراءة .
.................................................. .................................