طقس دخيل

[قصي المحمود]

السلام عليكم زميلاتي وزملائي
هذه الرواية التي سأضعها أمام أنظاركم وهي تحت التجريب والملاحظات حتى أطبعها
سأخصص قسم أخر للملاحظات والملاحظات التي عندكم مفتوحة لأننا نبغي التفاعل والتكامل بيننا
سأنشر كل فصل بين فترة وأخرى ومن الطبيعي ستكون ملاحاظاتكم محل تقدير منا مع شكري وتقديري

[قصي المحمود]

طقس دخيل
(الجزء الأول)

رواية

تأليف
قصي المحمود








الإهداء
إلى كل كومة طين في بلدي
إلى كل قطرة ماء، كل زقاق في مدني الموشحة بالسواد
إلى بساتين العنب المعاندة والنخيل الشامخ خلف قضبان صدأة
إلى سجناء الطقس الدخيل والفصول المرتبكة
مشتعلا ألماً وحسرة أهدي هذه الرواية


الفصل الأول
( 1)
بدا سلام السماك غاضباً وهو يلوح بقنينة عرق العصرية" لصاحب محل المشروبات الكحولية يتوعده بها لو شعر أن القنينة مغشوشة ثانية كما حدث له الخميس الماضي، يتجشم سلام عناء الذهاب للحي المجاور لشراء قنينة الخمر هذه لعدم وجود محلات لبيع الخمرة في مدينة الأعظمية التي يسكنها والمطلة على نهر دجلة من جانب الرصافة شرقي بغداد، تقابلها على الساحل الآخر غربي مدينة بغداد مدينة الكاظمية، كلتاهما يربط بينهما جسر يسمى جسر الأئمة ولهما مكانة تأريخية ودينية كونهما من أقدم محلات بغداد السكنية اضافة لمكانتهما الدينية في العالمين العربي والإسلامي، لم يكن سلام مدمنا على الخمرة أو مواظبا عليها دائما أو متسكعا لكنه يجد متعة الجلوس عند منخفض منزوي على ضفة يطل منه على نهر دجلة كل أيام الأسبوع للتأمل دون خمرة عدا يوم الخميس حيث يحتسي الخمرة بعيدا عن الأنظار وسماع أغاني أم كلثوم ونجاة الصغيرة أو عبد الحليم حافظ ومحمد القبانجي وناظم الغزالي وداخل حسن على جهاز تسجيل صغير يصطحبه ، كان دائما ما يطيل النظر على الجسر الرابط بين مدينته ومدينة الكاظمية وهو يرى زحمة الناس في المجيء والرواح على جانبيه، يتذكر ما حدّثه والده عن تسمية الجسر حين أختلف أهل الكاظمية مع أهل الأعظمية في تسمية الجسر ف(أهل الكاظمية) لديهم الرغبة بتسميته بجسر الكاظم و(أهل الأعظمية) بتسمية بجسر الأمام الأعظم، عندما وصل خبر الاختلاف إلى الملك فيصل الأول قرر تسميته بجسر الأئمة وعمم ذلك بمرسوم ملكي وبذلك حسم الجدل بتسمية الجسر بما يرضي جميع الأطراف، كان ينظر للنهر والجسر بما يمثلانه من حبر يكتب التاريخ لمدينة بغداد التي يعشقها، تأريخ حافل بالمتغيرات والأحداث والنهر لم يزل مكانه كأنه لا يعبأ بما يفعله البشر ومتجاهلا كل المتغيرات، المكان يرمز للثوابت والجذور والأصول، لا تغيره ريح البشر المتغيرة بالمسميات وحسب المواسم وقوة واتجاه الريح، فالرياح والمواسم متغيرة إلا المكان والشواخص ثابتة، يتأمل نهر دجلة حيث الأضواء الرائعة المنتشرة على مساحة النهر في تلك المساءات الجميلة كأنها لوحة ساحرة
بلهجة يشوبها التهديد المبطن خاطب بائع الخمرة
_ أسمع، هذه المرة إن كانت قنينة الخمر مغشوشة كما في المرة السابقة فلن أرحمك
قال له البائع وهو يرمي السبب على المخزن الذي يجهزهم بها


_ سيدي أبلغنا صاحب المخزن، ولسنا المسؤولين عن ذلك
_ المهم، أنذرتك
كان الجميع حينها يخاف من أي تهديد يأتيه لغياب القانون أو ضعفه في ظل هذه الظروف المعقدة التي خلقها الاحتلال الأمريكي
_ سأعوضك بضعفها إن كانت مغشوشة
تركه وعاد وهو يمني النفس بجلسة على الشاطئ تريحه من مما حوله من ارهاصات

[قصي المحمود]

2
صداقات سلام محدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد رغم طبعه الاجتماعي المتقبل للآخر وإن أختلف معه، طيب المعشر، متصالح مع نفسه ومع الآخرين، لم يشاركه خلوته أحد ما عدا صديقه حيدر زميله في كلية الاعلام الذي يسكن مدينة الكاظمية حيث يشاركه في الكثير من وجهات نظره ويستمتع معه بصيد السمك وتبادل الحديث، منظر نهر دجلة في المساء وهو يتهادى بجريانه وانعكاس الأضواء المطلة من جانبيه على المياه يعطيها سحرا ودفقة شاعرية تنعش الروح وتدعو للتأمل، دائما ما يرى وجه فاطمة خطيبته في جريان نهر دجلة الهادئ، جيبه لا يخلو من دفتر جيب صغير وقلم جاف يدون فيه بعض الخواطر أثناء خلوته ليقرأها على مسامع فاطمة، يعلم جيدا أن الجميع يشعر بالضيق لتأخر زواجهما رغم تخرجه من كلية الإعلام العام الماضي واكماله الخدمة الإلزامية وتخرج فاطمة من كلية الآداب، كثيرا ما كانت والدته تحثه على الزواج لتفرح به وهي المرأة المسنة وتردد دائما على مسامعه
_ يُمّه سلام فدوة الك أريد أفرح بيك، كلي أشوكت..
رغم الحاح خطيبته فاطمة على الخروج للعشاء هذا اليوم الا أنه تذرع باِنشغاله، وعدها بنزهة وعشاء مساء يوم غد الجمعة، تدرك فاطمة أن عذره مجرد هروب لأنه يتعارض مع يوم طقوسه ولكنها فضلت مجاراته على عدم احراجه وهو الذي يعشقها أكثر مما يحبها وتبادله ذات الشعور اضافة لكونه قريبها فهو ابن عمة والدها، في اليوم التالي وفي مطعم يطل على نهر دجلة عند كورنيش الأعظمية كان يتجاذبان اطراف الحديث بينهما، بادرته بالقول:
_سلام بدأت اشعر بالخجل والأحراج من نظرات قريباتي وصديقاتي وتساؤلاتهنَّ، يصيبني الاحراج من هذه التساؤلات وقد تأخر زواجنا دون مبرر وخاصة بعد أن نلنا شهاداتنا الجامعية
أجابها باِقتضاب وهو يعتصر يديها المتشابكة بكلتا يديه، يقترب من وجهها الصبوح والبادية عليه علامات الخجل والاِرتباك الواضح على وجنتيها المتوردتين، يهمس لها مما يزيد من ارتباكها
_ حبيبتي ..لا تلتفتي لأحد وأنتِ العارفة بلهفتي للزواج وتأسيس عائلة لكنك كما ترين الوضع غير مستقر وبصراحة...من أجلك لا من أجلي
ثم عاود الهمس لها حتى شعرت بحرارة انفاسه وهو يحاول أن يكون صوته أكثر دفئا وهي تحاول أن تكون أكثر صلابة لتداري الارتباك الذي لديها
_ تعلمين فاطمة مدى حبي لك، حتى وأنت بعيدة عني، مجرد استحضارك يحيل حياتي والأمكنة إلى بستان من أزاهير، تخيلي ولأننا لم نجتمع لحد الآن تحت سقف واحد ذلك يخلعني من أنّاي لأكون أنتِ فيشتعل حطب الاشتياق كلما شارف على أن يطفأ، أحيانا أصنع في مخياتي من موجات نهر دجلة ومن خيوط الغسق مظلة لأقفز منها بين كفيك كحبة رمان طازجة...أنه صدى الحب في أعماقنا
شعر باحمرار وجنتيها وتلاعب رمشيها طربا وخجلا، ثم تمالكت نفسها وعلت وجهها ابتسامة وهمست له
_ حبيبي...(لا توكلني حلاوة بجدر مزروف) ضغوط عمي حسام على أبي وأمي كبيرة رغم صمود أبي وصمود أمي وخاصة بعد زواج بنات عمي الاثنتين وهنَّ أصغر سنًا مني، ثم ما دخلنا فيما يحدث وسيحدث. هذه الأوضاع ليست وليدة اليوم ..نحن منذ أن ولدنا ونحن في أوضاع متأزمة، الواحدة تلو الأخرى.. والحدث تلو الحدث، فما عرفنا الاستقرار العام إلا ما ندر
ضحك وهو يضغط على يديها بقوة
_ أتريدين أن أقرأ لك بعض ما في مدونتي وما فيها من الخواطر وأنا في خلوة مع نفسي على نهر دجلة، صدقيني حبيبتي فاطمة.. أنا أقرأ الأمور من زاوية أخرى فلعل القادم اسوأ مما نتصور أما ضغوطات عمك وأبن خالي حسام هي حالة استثنائية كما قريبنا عبد الاله حالة استثنائية حتى وأن تضخمت قليلا فسرعان ما تنفجر كالفقاعة وتتلاشى، القاعدة هي أن مجتمعنا يا فاطمة هكذا، طيب القلب يتعايش مع الرأي الآخر، اسألي والدتك ووالدتي وهما من جنوب العراق ومن الناصرية تحديدا ..كم فيها من الطوائف والأديان ..حتى أبو الأنبياء ابراهيم عليه السلام ولد فيها، ولو كان والدي حيا لأجابك عن طيبة وكرم غرب وشرق ووسط وجنوب العراق، ليس هناك مشتركات بل تطابق ثقافي وديني ومجتمعي وبيئي، ألا ترين (التنور الطيني) في الجنوب والوسط والغرب والشرق من بلادنا الحبيبة، حضارة واحدة وشعب واحد فلا عليك ..أنا متأكد لن ولن تفلح ضغوط عمك ..فقط تجلدي
ثم أردف قائلا لها بصوت دافئ حنون:
_بل تأملي الجسر الرابط بين المدينتين وما تحملانه من رمزية كبيرة وما يحمله الجسر من رمزية، هو بمثابة الشريان يتدفق منه دم واحد يغذي قلب المدينتين ويعطيهما هوية واحدة وفصيلة دم واحدة
شاهدته وقد بدت الجدية والصرامة على وجهه ، لم تشاهده من قبل أبدا على هذه الشاكلة، شعرت بما يجيش قلبه النقي من وجع وارهاصات، عاد إليه الهدوء وعادت بسمته الحنونة فأردف لها قائلا:
_ كيف لا دخل لنا فيها حبيبتي، كل ما يحدث يشملنا وتصيبنا منه الشظايا واحيانا بمقتل، مع هذا حبيبتي أوعدك خلال هذه السنة سنكمل مستلزمات الزواج ونتزوج واكملها بلهجته البغدادية المحببة ( تدللين عيوني)
_ حسنًا، ما رأيك أن أقرأ لك مما في مدونتي من خواطر أنتِ فيها
_ أنه دوار البعد سلام
_ نعم حبيبتي هو الذي يحي دواخلنا، أسمعيني أضمد بها جراح قلبك وقلبي
علت وجنتيها احمرار الخجل، طأطأت رأسها ووجهها تعلوه ابتسامة هادئة قائلة له بصوت خافت
_ هات ما عندك شاعرنا المبجل
_ سأقرأ لكِ ولأنك خريجة كلية الآداب فلا تعيبي علي الأداء
لا شيء
لا شيءَ يُعكرُ المزاج
إلّا مِن فجرِ صباحٍ تَحجُبه الغيوم
خالي مِن وردةِ صباحٍ وردية
لا شيءَ يَفقدني الشهية
إلّا مِن مَساءات خَلت
مِن قبلةٍ نَدية
لا شيءَ يعكّرُ خَلوتي
إلّا مِن غِياب رفقَتها
وصوتها الشجي
وشفتاها المكتنزتين
لا شيءَ يفرح مهجتي
إلّا مِن وجهٍ مُعشبٍ خَضُور
فاطمة، فطمت عشقي بها
يَطل مِن نافذةِ الاِنتظار
جَميل المَحيا، ألق الحُضور
رَقِيق المَبسَم، مُستنفر الثُغور
عبق يفوح مع الرّيح
وطيات قصائدي والمنثور
وهي تستمع له شعرت كأنها في غيبوبة ثم راحت تهمس له وقد تحرر لسانها وفكت عقدته
_ آه، إنك تتعبني بصهيل خيلك الذي يتلاعب بجنبات روحي، يوقظ كل مشاعري المدفونة قسراً، سأبقى بانتظارك حبيبي
ودون أن تدري عانقته بشغف، وراحت تجهش بالبكاء، افزعه بكائها، تبللت يديه وهو يمسح دموعها وقرب وجهه منها وقبلها من جبينها، كانت لحظة غيبوبة عشق بينهما لم يفيقا منها إلا على صوت أحد المارة .

[أحمد علي]

دخول أولي وتهنئة على الرواية ..
وقراءة مبدئية ..
ولسوف أتبعها بقراءة متأنية لأقول رأيي فيها ..
حبيبنا قصي المحمود ،، بالتوفيق دائما
محبتي ،،

[قصي المحمود]

دخول أولي وتهنئة على الرواية ..
وقراءة مبدأية ..
ولسوف أتبعها بقراءة متأنية لأقول رأيي فيها ..
حبيبنا قصي المحمود ،، بالتوفيق دائما
محبتي ،،

شكري لك حبيبنا وأخينا أحمد
حقيقة الرواية جاهزة في حاسوبي للطبع ولكني أرتأيت عرضها هنا لأرى وجهات النظر
من الزميلات والزملاء وفيها وإن كان فيها هنات لغوية أو سردية
يسعدني مرورك ومتابعتك
جزيل شكري وامتناني لكم

[أحمد علي]

شكري لك حبيبنا وأخينا أحمد
حقيقة الرواية جاهزة في حاسوبي للطبع ولكني أرتأيت عرضها هنا لأرى وجهات النظر
من الزميلات والزملاء وفيها وإن كان فيها هنات لغوية أو سردية
يسعدني مرورك ومتابعتك
جزيل شكري وامتناني لكم

يعطيك العافية والصحة ابن الفرات قصي المحمود
نعم قرات الجزئين وفيهما هنات طفيفة قمت بتعديلها أرسلها لك بعد أن اقرأ كامل الرواية
لأقول رأيي الفني كاملا ..
في انتظار الأجزاء الباقية للرواية وقد لمست خيط رومانسي جميل بالجزء الثاني ..
تقبل محبتي وتحياتي ..

[قصي المحمود]

يعطيك العافية والصحة ابن الفرات قصي المحمود
نعم قرات الجزئين وفيهما هنات طفيفة قمت بتعديلها أرسلها لك بعد أن اقرأ كامل الرواية
لأقول رأيي الفني كاملا ..
في انتظار الأجزاء الباقية للرواية وقد لمست خيط رومانسي جميل بالجزء الثاني ..
تقبل محبتي وتحياتي ..

وهذا هو مبعث سعادتي..
الهنات أنت حر في كتابتها هنا أو برسالة خاصة
ويا ريت تكون الملاحظات على الأجزاء والفصول
أي كل فصل على حدة لسهولة التعديل والمتابعة
الرواية توثق ما جرى بالعراق ونزاهة المقاومة الوطنية وكيف جرى تشويهها وهذه الرواية هي الجزء الأول
لمشروع متكامل لما جرى في العراق أي الوجه الآخر الغير معلن ومحجوب حاليا ورغم صعوبة ذلك في ظل نظام
انتجه الاحتلال الأمريكي
شكري لكم مع فائق تقديري

[قصي المحمود]

يعطيك العافية والصحة ابن الفرات قصي المحمود
نعم قرات الجزئين وفيهما هنات طفيفة قمت بتعديلها أرسلها لك بعد أن اقرأ كامل الرواية
لأقول رأيي الفني كاملا ..
في انتظار الأجزاء الباقية للرواية وقد لمست خيط رومانسي جميل بالجزء الثاني ..
تقبل محبتي وتحياتي ..

شكري لك وامتناني على ملاحظاتك القيمة صديقي الأستاذ أحمد
محبتي الدائمة

[قصي المحمود]

(3)
يعلم مدى الأحراج التي هي فيه ولكنه بنفس الوقت كان يقرأ الأحداث السياسية وهي التي لا تبشر بخير فهناك تصاعد للأحداث ولهجة الحرب تتصاعد ومؤشرات حدوثها اصبحت واضحة، في قرارة نفسه يدرك أن الحرب قادمة لا محالة وبالتالي يخاف عليها من المجهول وترملها وهي شابة في مقتبل العمر رغم انه مدني وليس عسكري ولكن الحرب الشاملة والغزو لا يفرقان بين أحد، لا يختلف سلام عن أكثرية أهالي مدينة الأعظمية في طيبته وعفويته فهو ينتسب لبغداد وما تتسم به من روح التسامح والتعايش المشترك والعفوية العاطفية واللغة المحببة في العاطفة والروح الحضارية المتوارثة
4
اعتاد سلام النهوض المبكر ليجد والدته قد اعدت الفطور الصباحي له، فهي تنهض مع آذان الفجر لأداء الصلاة المواضبة عليها في اوقاتها، ورغم أنه كثيرا ما نبه والدته أن لا تشغل بالها به فهو يستطيع أن يعمل فطوره بنفسه لكنها كانت تهمل ما يقول لها فهي قد اعتادت على نمط حياتها رغم إنها أصيبت بالكآبة والملل لفترة وجيزة بعد زواج أبنتها علياء وهي آخر العنقود وخلا البيت من البنات وهو ما جعلها تصاب بالإحباط لفترة حتى تأقلمت مع الوضع الجديد
_ يا سلام فطورك جاهز..أنهض كي لا يفوتك مزاد السمك
_ حاضر أمي
أجابها وهو برفع الغطاء عنه ويفرك عينيه ويذهب إلى الحمام وصورة فاطمة لا تفارق خياله وحديثها بالأمس معها، دائما ما يشعر بتأنيب الضمير وهو يشاهد والدته تصلي وتلّهج بالدعاء له، كان يحدث نفسه : متى تتصالح مع نفسك يا سلام وتعود لله، لعنة الله على الشيطان.
ما أن خرج من البيت حتى شاهد غانم سائق العقيد خالد جيرانه متكأً على مقدمة السيارة، تعرف على غانم منذ أن سلم السيارة له بدلا عنه سائقاً للعقيد خالد حين تم تسريحه من الجيش ولهذا يكن كل التقدير والاحترام لجاره العقيد خالد في مساعدته بانهاء خدمته العسكرية في المقر العام معه حيث منصبه الأداري في مفتشية الجيش بوزارة الدفاع
_صباح الخير غانم ..خير إن شاء الله فاليوم جمعة
_ اهلا سلام..صباح الخيرات، اتصل بي العقيد ليلا يبدو أن لديه واجب تفتيش لقطعات الجيش في قاطع العمارة
في هذه الأثناء خرج العقيد خالد وهو يحمل حقيبته الدبلماسية وبكامل اناقته العسكرية والتي يحرص عليها دائما حتى في واجباته الخارجية، ابتسم لهما وسلم عليهما قبل أن يبادرا بالسلام عليه
_صباح الخير شباب
ثم التفت لسلام وهو يقترب منه هامسا:
_ ها..أمس الخميس..والله يا سلام لولا رائحة السمك لفضحتك الخمرة
يبتسم سلام له خجلا دون أن يضيف أي كلمة سوى رد تحية الصباح ويسرع لسيارة الأجرة المتفق مع صاحبها يوميا للذهاب لعلوة الأسماك التي وصلت للتو وانقذته من الأحراج الذي دائما ما يقع فيه أمام العقيد خالد، يكن سلام للعقيد خالد مودة واحترام كبيرين كغيره من ابناء المحلة لما يتمتع به العقيد خالد من رزانة في الشخصية ودماثة في الخلق واستقامة وتدين معتدل منفتح، هو من أصول كردية يعتز بها من والده ويعتز بأصول والدته العربية والتي هي من قبيلة العُبيد القبيلة العربية المعروفة بشمائلها وخصلاها الحميدة، فوالده من سكنة مدينة كركوك التي تمثل عراق مصغر لكون ساكنيها خليط من العرب والأكراد والتركمان يشكلون نموذجا للتعايش المشترك، لم يبخل العقيد خالد بالمساعدة لكل من طلب منه المساعدة سواء من أبناء محلته أو من غيرها، التزامه الديني لم يمنعه من الإنفتاح الفكري والعقائدي واعتزازه بخليط الإنتماء النسبي له، كان محل تقدير واحترام من جميع أقرانه في الجيش وأبناء محلته

[قصي المحمود]

لم يكن سلام موفقا في ذلك اليوم ببيع كل السمك فقد بقيت عنده خمسة من الأسماك ومن الحجم الكبير فائضة بعد أن خلا السوق من المتبضعين، تذكر قريبتهم أم عبد الله وهي أرملة وأمٌ لأربعة أيتام فقرر أن يمر عليها ليعطيهم سمكة وبنفس الوقت يعطي لجارها قريبه عبد الاله سمكة أخرى كصلةً برحم ويحتفظ بالباقي من الأسماك ليضعها في المجمدة ولوالدته التصرف بها وقت الحاجة، رغم أنه لا يستلطف عبد الاله لتدخله في شؤون الغير وتزمته برأيه وغلاظته عكس أخوه رباح المتسامح،
كان عبد الاله دائم التذمر والشكوى منه عندما يلاقي والدته ليذكرها بوالده الورع المتدين والذي لا يترك فريضة للصلاة دون أن يؤديها معه، كانت تختلق لولدها الأعذار وتلتمس مسامحته فهو شاب لم يفقه من الحياة شيئاً لكنه كان يصدها بإجابة فيها نوعا من السخرية
_ أم سلام : سلام قارب الثلاثين من عمره ومن مثله يكون قد أسس عائلة له .
كانت تجيبه دائما بعطف الأمومة ورجائها
_ أنت تعلم أن سلام شابا خلوقا يحبه الجميع وعندما يتزوج حتما سيترك هذه الخمرة اللعينة ،
وكان يجيبها وهو يحث الخطى فيما يشبه الهمس خوفاً من آذان النظام .
_ هذه الحكومة الجاثمة على صدورنا هي سبب الانحراف لسماحها ببيع الخمرة، ليأتي من يأتي ويخلصنا ونرتاح منها .
كان يؤلمها حديث قريبهم عبد الاله معها عن سلام ، دائما ما تذكر له أنها لا تحبه لعجرفته وتزمته وتطرفه ولكن بنفس الوقت كانت ترجو من ابنها أن يترك تلك الخمرة اللعينة التي تجعله علكة بلسان الكثيرين مما يوقعها في حرج كبير، شكى سلام قريبه لابن مدينته دكتور عبد الحميد وهو دائم التسوق منه بعد يوم من حديث عبدالاله مع والدته ردَّ قائلًا :
_رغم أن شرب الخمرة مسألة شخصية من وجهة نظري ما دامت لا تؤثر على من حولك ولكنها في مجتمع محافظ وشرقي مثلبة على صاحبها إضافة إلى أنها معصية لله ومحرمة وفق شريعتنا يا ولدي كذلك مضرة بالصحة وتستنزف الأموال ونحن في حصار موجع
أخجله حديث الدكتور وهو أكاديمي لغوي رغم معرفته به وبانفتاحه واحترامه للرأي الآخر
_ والله يا دكتور ليس كل ما يعرف يقال، ليبدأ من عائلته فولده وهو وكيل مواد غذائية يتلاعب بالميزان وكل أهل المحلة على علم بذلك ونحن في حصار موجع والناس جياع ،
_ لا نريد أن نغتاب أحدا يا سلام فدعه هو وولده وحدهم يتحملون وزر ما يفعلون وكما أنت تريد منه أن يدعك وشأنك وتتحمل ما تفعله
قالها ضاحكاً، فرد عليه وقد علت وجهه ابتسامة عريضة :
_دكتور هناك فرق كبير بيني وبينه، ما أفعله يضرني ولا يضر أحد بينما هو وولده يضران الآخرين وهو على علم بذلك من خلال ثراء ولده
_هذا ندعه للقانون سلام فلسنا قضاة ولا محققين
بضحكة حانية وهو يسترسل بكلامه
_أبعث للحاج أبا رحمه سمكتين على ذوقك فمساء هذا اليوم عندي ضيوف وأوصيه أن يعتني بهما جيدا عند الشواء
_ وبدوري سأوصي الحاج أبا رحمه كذلك ولكن يا دكتور بلغ قريبنا عبد الاله حين تراه ألا يعترض سبيل أمي ويسمعها مثل هذا الكلام فهي امرأة مسنة ويؤلمها ذلك رغم أني أستطيع مواجهته ولكن ما يمنعني عنه شيبته البيضاء وكبر سنه وصلة الرحم التي بيننا وخوفا من أن تتطور الأمور إلى ما لا يحمد عقباه .
_لا عليك سأكلمه اليوم ولن يعترض الحاجة الوالدة من اليوم فصاعدا بمثل هذا الحديث
6
وهو يهم بالخروج باكرا لفتت نظره والدته ألا ينسى أن ابن خاله عباس وعائلته سيكونون معهم على الغداء هذا اليوم ثم أردفت قائلة :
_ ربما هي فرصة لنتكلم معه بتفاصيل زواجك من فاطمة... ولدي لا تدخل مع ابن خالك حسام والذي قد يأتي مع عائلته معهم في سجال سياسي مما يعكر صفو الجلسة وهم ضيوفنا وأنا أعرف مدى تقاطع قناعاتكما
وهو يحتضنها ويقبل جبينها باسما
__ أمي العزيزة والله لا أضمر لهما إلا المحبة ولكن ابن خالي حسام وقريبنا عبد الاله ومن على شاكلتهما وجهان لعملة واحدة، يخلطان ما بين الوطن والحكومة ويفرضون قناعاتهم الدينية والطائفية المتزمتة والمتطرفة التي لا تحترم الرأي الآخر، يبحثون عن وهم المختلف ولا يتكلمون بالمشترك الحقيقي والمتجذر عندنا، هذه بالنتيجة تؤدي لانقسام مجتمعي وديننا دين سماح وسلام ومحبة يحترم الرأي الآخر، نحن مجتمع متعدد العقائد والطوائف والقوميات واليوم نحن أحوج ما نكون للهوية الوطنية الجامعة، كلنا تقريباً نتمنى التغيير ولكن ليس بأي صورة كانت، الأدهى والمحزن المبكي أن يدعون للتغيير حتى بالغزو والاحتلال من دولة أجنبية لها أجنداتها ومصالحها التي تتقاطع مع الوطنية وشرف الانتماء، المفارقة العجيبة يختلفون فيما بينهم في التدّين ولكنهم يتفقون على الوطن!!هما وجهان لعملة واحدة، الوطن باقِ والحكومات زائلة اليوم أو غدا
لم ترد عليه فهي لا تحب السياسة والسياسيين وهمها الوحيد الحفاظ عليه وعلى أخوه وبناتها وتجهل هذه اللغة ولا تحب الحديث فيها، بحكم تربيتها المنفتحة رغم أنها من مدينة الناصرية الجنوبية وسمتها الأساسية ريفية قبلية ولكنها ثرية ثقافيا وتكثر فيها الحركات السياسية، والدها والذي كان موظفا في المحافظة علمهم احترام الرأي الآخر لكون مدينتهم حالها حال مدن العراق يسكنها من كل أطياف المجتمع العراقي وتتميز بثقافتها المنفتحة. يعلم أن والدته وطنية بالفطرة لكنها لا تريده أن يصطدم مع ابن خاله ولا قريبهم عبد الاله.
ما أن عاد من مزاد السمك صباح ذلك اليوم وقد كانت كمية تسوقه قليلة رغم أن الجمعة دائما ما تكون سوقا رائجة للسمك ، أوصى بشواء ثلاثة اسماك عند الحاج أبا رحمه انتقاها من عنده وأوصى صديقه رحيم صاحب المطعم بشواء كيلو كباب لحم وكيلو غنم مع المقبلات، لم تكتفي الحاجة زكية والدته بما أوصى به، منذ مساء أمس انشغلت بعمل الدولمة والبامية بلحم الغنم والرز البرياني، وهو يشاهدها تقف على الطباخ منذ المساء قال لها مازحا
_ ما تعمليه يكفي لقبيلة أمي...
_ لا عليك...فأنا أستمتع بما أقدمه لعائلة أولاد أخي وأحضر مفاجأة لك ولهم.. وهم يحبون الطعام المعمول بيدي ويذكرهم بطبخ والدتنا ولا تنسى أن أخواتك وبنات خالك المتزوجات سيكونن حاضرات إن شاء الله
ضحك وقال لها
_ هذا من وراء ظهري، يبدو أنك تحضرين لحفلة وليس لعزومة
7
لم يبق عنده إلا أسماك على عدد أصابع اليد فقد باع أكثر الكمية مبكرا، بقي شقيقه في المحل والذي دائما ما يساعده في أيام الجمعة لإكمال بيع ما تبقى وأوصاه بعد أن ينتهي يجلب السمك المسكوف والكباب للبيت لأنه سيعود للبيت لمساعدة والدته، في طريق عودته اشترى علبة شوكولاتة لأطفال أخواته لأنهم سيكونون أول المستقبلين له، كانت أخواته قد وصلن باكرا كما خمن وما أن فتح الباب الخارجي حتى أسرع الأطفال جميعا وهم يصرخون
_ خالو سلام ..خالو سلام..
كانت زينب وبكر أولاد أخته الكبرى في المقدمة تلتهم فاطمة وخديجة بنات أخته الوسطى فهن أصغر الأطفال، أخذهم في الأحضان وهو جاثم على ركبتيه وفتح العلبة وهو يقدم لهم الشكولاتة، بعد أن حضر ابن خاله عباس ووالد خطيبته وزوجته وأحدى بناته وولده آخر العنقود مرتضى، بعدها حضر أبن خاله حسام بمفرده مبررا عدم حضور العائلة لانشغالهم بوالد زوجته المريض وهو عذر يعفيه من المكوث طويلا
8
الظروف المحيطة في العراق وبوادر الانقسام حاضرة في ذهن أم سلام، بحكمتها جعلت من مائدة الغداء عبارة عن انعكاس للتنوع العراقي، فمن (المسموطة) إلى (الدليمية) إلى المقلوبة والدولمة(الملفوف) والسمك المسكوف والكبة الموصلية ورز عنبر المشخاب جعلتها كلها حاضرة على المائدة وكانت رسالة مشفرة منعت التطرق لأي حديث يمس الهوية العراقية الجامعة مما زاد من حميمية اللقاء والعزومة، وصلت الشفرة لحسام مما جعله يستأذن للخروج بذات العذر بعد مجاملة منه في مشاركته الغداء، ورغم ذلك شعرت الحاجة أم سلام أنها قد أدت ما عليها للحفاظ على التماسك الأسري الذي هو نواة للتماسك المجتمعي العام .