القمل \ عمر سيف الدين
ترجمة مصطفى الصالح
ليس العشق.. ألا تذكرون تلك اليد المجهولة، التي تصنع التاريخ، توجد السعادة وتبني البيوت، والتي نسميها الصدفة؟ هي نفسها جمعتني ب (روز ماير). كنت في العشرين من عمري أو أقل قليلا. أسكن مع كلبي الصغير (قوتون) في أحد فنادق الدرجة الثانية في إزمير. في أحد الأيام جاءت إلى الغرفة المقابلة فتاة فرنسية ذات عينين زرقاوين واسعتين وشعر أشقر. كان الحزن باديا على وجهها. سألت عنها صاحب الفندق فقال
- جاءت من باريس خلف طبيب أرمني، لكن عائلته لم تتقبلها وطردتها. المسكينة تنتظر الآن باخرة من أجل العودة إلى بلادها.
كم هو نشيط قلب الإنسان عندما يكون في العشرين! هذه المغامرة البسيطة ضخمتها في خيالي، بدأت أعيش آلام وأحزان هذه الفتاة المسكينة التي احمرت عيناها الواسعتين الزرقاوين من البكاء. غالب الظن أنها كانت تنتظر المال أكثر من الباخرة، لأني عندما تابعتها سرا وجدت أنها تذهب كل يوم إلى البريد الفرنسي وتسأل عن رسالة. كلما تقابلنا على الدرج أو في الممرات نظرنا باهتمام ثم بدأنا نقول (بنجور ، بنسوار ) لبعضنا، وخلال أسبوع صرنا أصدقاء. شرحت لي ما جرى معها وهي تبكي، واسيتها وجعلت من نفسي فيلسوف حياة. لم تكن فتاة غرا، كانت تعرف كل شيء، واقعية لكنها كانت تهتم كثيرا لشرفها، كانت تفضل أن تكون ربة بيت هادئة على كل سعادة خيالية، ويفترض أني مثلها أحب السكينة أيضا. اتفقنا خلال شهر، لم تذهب رغم وصول المال من عائلتها في باريس، واجتمعنا معا، استأجرنا شقة صغيرة خلف (المتحلق الثاني)، ما أجمل الزواج الحر!! كنت مبتهجا لدرجة أني شعرت بطير سعادة محبوسا في داخلي يتنفس ويرفرف بجنون. كانت روز فعلا لا تحب الشارع ولا التنزه، من الصبح حتى المساء مشغولة بأعمال البيت، لا راحة ولا استراحة، تغسل كل شيء باهتمام، حولت اهتمامها بالنظافة إلى درجة الجنون؛ ثلاثتنا أنا وهي وكلبي كنا نستحم ثلاث مرات في اليوم، في المساءات كنا نذهب إلى المقهى الفرنسي أو السينما، عند عودتنا ورغم التعب والإرهاق كانت روز تمسح أسفل أحذيتنا بماء الغسيل، ولا تكتفي بغسل أرجل قوتون، في بعض الليالي كانت تغمر الحيوان المسكين من فوق لتحت بالصابون.
لكن أليست السعادة إلا حلما؟ سعادتنا لم تدم طويلا، صحونا على هم عظيم، فقد مرض قوتون مرضا قويا؛ لا يأكل لا يشرب لا يلعب، ينام دائما، كان يضعف ويذوب، روز فقدت الأمل مثلي، كانت تقول: المسكين أصابه السل!
أخذناه إلى كافة البيطريين، أعطونا فاتح شهية فلم نتمكن من أن نشربه إياها، جربنا المسهلات وغيرها لكن لم ينفع أي شيء. كان لي صديق اسمه رحمي، هو فقط من عرفته على روز، كان يحضر إلينا أيام الأحد، رأى مصيبتنا وحزنها الكبير على قوتون، قال: ألم تأخذوه إلى بيطري؟
- أخذناه.
- أي واحد؟
ذكرت له كل البيطريين في إزمير، حتى أني حاولت شرح مقدرة وعلم أحدهم؛ رغم أنه متدين كان يحمل اسم آلة موسيقية لا نذكرها الآن، قال رحمي: يا عزيزي، إن أردت ألا تفقد كلبك فجد بيطريا أوروبيا واعرضه عليه.
قلت ما الفرق بين البيطري الأوروبي والآسيوي؟
رد ضاحكا: كثيرا
- ماذا مثلا؟
- عندما تعرض كلبك ستعرف.
نظرت لهذا العرض على أنه عبثي، لكن الغريق يتعلق بفقاعة! عند المصيبة وانعدام الأمل ما أجمل المواساة ببناء الأماني على الأساسات الأكثر فراغا وتصدعا. قالت روز: لا تعترض.. لنعرضه على بيطري أوروبي، ربما يكون السيد رحمي على حق.
حين سألت وبحثت، وجدت بيطريا إيطاليا عجوزا في (بُنطو)، متخصص في وباء البقر، حملت قوتون المسكين الذي لا يستطيع فتح عينيه من المرض وأخذته إلى بيته، فتح الباب بنفسه، كان رجلا مسكينا بلحية على شكل شعبة، يبدو أنه كان سيخرج؛ فقد كانت طاقيته على رأسه وعصاه بيده، قال: ماذا يريد؟
- الكلب مريض
أسند عصاه الغليظة إلى جانب الباب، بيديه المرتجفتين الضعيفتين أخذ قوتون من حضني، نظر إلى عينيه وفمه، ثم شم شعره، ثم مشط هذه الشعرات البيض بيديه، ونظر بدقة ثم قال: ضع عليه قبضة من القمل، سيتحسن.
- ما معنى هذا؟
- قمل يا بني، قبضة قمل!
ومد قوتون إلي فحملته وقد تضايقت كثيرا، قليل أدب، خرف يهزأ بي.
- ألن تعطه دواء؟
ضحك العجوز وكرر نصائحه الوقحة: قبضة قمل! لا تغسله، دعها عليه، هذا هو العلاج.
قلت غاضبا أتهزأ بي؟
- أبدا، قلت لك الصحيح! لا يلزمه علاج آخر.
- شخص خرف!
- أنا، أنا خرف ها...
- نعم أنت يا...
وكنت سأضربه من شدة الضيق
- هل أنا خرف؟
- خرف وقليل أدب! كإنسان أحضرت لك الحيوان، أما أنت فتثرثر
عندما يجد الأوروبي نفسه أمام جهل عظيم تخرج منه ضحكة أسف جامدة، البيطري الطلياني العجوز بمثل تلك الضحكة الخاصة غسلني ثم قال: هيا من هنا، رجل بلا عقل، لا تفهم شيئا، اذهب وافعل ما قلته لك، فإن تحسن تعال لتدفع أجرة الكشف، وإن لم يتحسن ستأتي أيضا لتقول في وجهي " تفو".
ودون انتظار جوابي أغلق الباب بسرعة وابتعد. يا ترى، هل كان علي أن أطبق العلاج؟
من جهة كنت غاضبا لأن العجوز لم يقدرني كوني تركي واستهزأ بي، ومن جهة أخرى كنت أفور غيظا كأن هذا الهزء ماثل أمامي. أتيت إلى البيت وشرحت لـ روز قلة أدب العجوز فقالت: ربما يكون محقا لنجرب
- هل أنت مخبولة؟ قلت ضاحكا
- هذا أمل
- حسنا
لكن أين أجد القمل؟ في بيت ينغسل مرتين في اليوم ليس قملة بل روحها لم تكن موجودة.
في اليوم التالي حضنت جسد قوتون الساكن وذهبت إلى دكان أحد أصدقائي من تجار التين، وشرحت له عن حاجتي للقمل فقال: في مستودعات شوالاتنا يوجد جيوش وليس قبضة.
تركنا قوتون هناك مع رغيف خبز! وأغلقنا عليه الباب. وفي اليوم التالي ذهبت لرؤيته، فتحنا الباب، فإذا الحياة قد دبت فيه، ووقف على رجليه، وعندما رآني بدأ يقفز مثل أوقات سعادته الخالية، فرحت كثيرا واحتضنته وركضت به إلى البيت، وعندما رأت روز كلبنا الحبيب وقد عادت إليه الحياة فرحت أكثر مني. قلت احذري أن يطير القمل عنه
- وكيف لا نطيره؟
- لا تغسليه
- لن أغسله
صبرت روز أسبوعا كاملا ولم تغسله فعلا، انتشى قوتون وانفتحت شهيته حتى صار يأكل مثل حجمه ولا يشبع. لم نفهم حتى الآن كيف فعلت توصية الطبيب هذا، وقد ندمت على ظني بها استهزاء، وشتمت المسكين أيضا، لكن دائما تغفر الأخطاء المعترف بها. بدأت تقلقني حاجتي للاعتذار من هذا العجوز الذي أعاد إلينا سعادتنا ودفع أجرة الكشف أيضا. ذات صباح قمت وذهبت إلى بيته، هذه المرة خادمة شابة فتحت الباب، وأدخلتني إلى غرفة العجوز الصغيرة ذات البرادي الشفافة، كان مستلقيا على كنبة جلدية يدخن بيبو أبيض من الخزف، قال دون أن يتحرك من مكانه: كيف الكلب، هل تحسن؟
قلت نعم
- أرأيت كيف أن رأسك فارغ، أنا أتكلم وأنت تظن مزاح
تركت ليرة على الطاولة التي بجانبه، وأثناء الخروج لم أستطع منع نفسي من العودة: لكن مسيو، بيطريونا أعطوه علاجات كثيرة ولم تؤثر، فكيف أثر القمل وعادت الحياة للكلب؟
- عقلك لن يفهم هذا
- لماذا مسيو، ألست إنسانا؟
- إنسان لكن إنسان مختلف! رجل جاهل!
- لكنني درست
- مثل البيطريين عندكم؟ يعطون الكلب دواء يشرب! ساكريستي ( خزانة)
بدأت أتكلم بالفرنسية، قررت أن أفهم كيف تؤثر القملة، بدأ العجوز الأوروبي بالضحك، أجلسني أمامه وبلغته الفرنسية الإيطالية قال: افتح أذني رأسك الفارغ الكبيرتين
هذا الأمر زلزلني لدرجة أنني أحسست أذني تطولان وتتأرجحان، بيده اليمنى كان يترك إحدى شعبتي لحيته ويمسك الأخرى، وبدا يتكلم كمن يعطي درسا:
- إن أردتم تميمة... إن أردتم قراءة... إن أردتم علاجا! مع العلم أنه يجب إيجاد سبب الأمراض أولا، ومتى عرف السبب حصل الشفاء. كلبك مريض، لماذا؟ هل فكر بهذا بيطريوكم؟ لا... لكنه مريض فقط! يلزمه دواء... كلا، يجب معرفة السبب، لم يخلق الله في هذه الدنيا أي حيوان أو عضو بلا وظيفة، أشرس الحيوانات وأضر الميكروبات لها وظائف أيضا، الحيوانات التي بأربعة قوائم كسولة جدا، وضع الله عليها القمل... لماذا؟ كي لا تنام مرة أخرى بعد استيقاظها... بسبب قرصات القمل يتحرك وهو يحك، يعني من أجل الرياضة... ماذا فعلتم أنتم؟ غسلتم الكلب ونثرتم عليه كولونيا فقتلتم كل القمل... بدأ ينام مرتاحا، يصحو ثم ينام من جديد. لم يكن على جسده حيوانات تمنعه من النوم، من كثرة النوم غابت شهيته وخربت معدته، لم يأكل لم يشرب لم يتحرك، فامتلأ جسمه بالسموم ومرض. لو مر عليه شهر آخر بدون قمل كان سيموت من المرض!.. ثم شرح البيطري العجوز كل وظائف القمل في الحياة بالترتيب، ثم عرج على الذباب والفئران والبعوض والقطط، ومن أجل أن تركض العجول الصغيرة سلطت الطبيعة عليها في مكان لا تصله أنوفها مثل أسفل الذنب ذباب لاصق قارص، كنت أستمع لحقائق دارون، ثم مضى البيطري إلى وظائف الأعضاء من شعر وشوارب وحواجب وأهداب. وعندما قال أن اللحية آلة هضم من الدرجة الثانية تعجبت فقال: أخ منكم أيها الترك، تقطعون الأعضاء التي هي ألزم للحياة والجسد وتخربون وظائفها
- ماذا مثلا؟
- شعر الإبط تقصونه
- ما وظيفته؟
- شعيرات الأنف والأذن لها وظائف أيضا، لا توجد عضلة تحت الإبط، فقط جلد رقيق، أطراف الأحشاء هنا، الطبيعة وضعت وبرا طبيعيا هناك من أجل حماية الأحشاء من البرد والحر...
خلال نصف ساعة تعلمت بالتفصيل الوظائف المهمة المثيرة للحيرة لكل وبر الجسد الطبيعي الذي ننتفه والأعضاء الأخرى التي نقصها دون تفكير... في الحقيقة أن أسرار الطبيعة الإيجابية لا يمكن أن يسعها رأس آسيوي سلبي مليء بالإيمان... رحمي معه حق! توقفت روز عن غسل الكلب، حتى انتشر القمل في شقتنا خلال فترة قصيرة، لدرجة أنه لم يعد يسمح لنا بالنوم حتى الظهر كالسابق، يصحو باكرا قبل شروق الشمس ويجبرنا على تناول طعام الإفطار.