* أنا أكتب نصوصا, ولن أغضب إذا قيل إنني لست شاعرا, وانما كاتب نصوص.
محمد الماغوط
* (القصدية)- ليست إجبارية للفعل الابداعي, يكفي أن نتذكر المرات الكثيرة التي كان فيها الدادائيون والسورياليون يتركون صناعة الأشعار- للصدفة.
ياكوبسون
* الديمقراطية هي أن تقهر نفسك, عندما تكون قادرا على قهر الآخرين.
عزالدين المناصرة
القسم الأول:
1 – مقدمة: الشبيه بقصيدة النثر:
مازال مصطلح (قصيدة النثر) هو الأكثر استعمالا وشيوعا في النقد المعاصر من غيره من المصطلحات التي اطلقت على النمط الكتابي الشبيه بالشعر والنثر معا. وهذه بعض الأسماء التي أطلقت على قصيدة النثر منذ نشأة الشبيه عام 1905 حين كتب أمين الريحاني أول نص من نوع (الشعر المنثور) وحتى عام 2001:
1 – الشعر المنثور 2- النثر الفني 3- الخاطرة الشعرية
4 – الكتابة الخاطراتية 5- قطع فنية 6- النثر المركز
7- قصيدة النثر 8- الكتابة الحرة 9- القصيدة الحرة
01- شذرات شعرية 11- الكتابة خارج الوزن 12- القصيدة خارج التفعيلة
13- النص المفتوح 14- الشعر بالنثر 15- النثر بالشعر
16- الكتابة النثرية- شعرا 17- الكتابة الشعرية- نثرا 18- كتابة خنثى
19- الجنس الثالث 20- النثيرة 21- غير العمودي والحر
22- القول الشعري 23- النثر الشعري 24- قصيدة الكتلة
25- الشعر الأجد
وبتقديري أن هذا الخطأ الشائع, خير من الصحيح الهامشي الثانوي الفرعي, كما أن الخطأ خير من التعميمات الشمولية المتناقضة, لهذا أرى أن مصطلح (قصيدة النثر), اصبح اكثر شيوعا ووضوحا واستعمالا في النصف الثاني من القرن العشرين, بينما سيطر مصطلح (الشعر المنثور) ومصطلح (النثر الشعري) على النصف الأول من القرن العشرين للدلالة على قصيدة النثر في مرحلتها الاولى, دون أن يتطابقا تماما.
صدرت أول مجموعة عربية من نوع (الشعر المنثور) عام 1910م, وهي بعنوان (هتاف الأودية) لأمين الريحاني, اشتملت على النصوص التالية (ريح سموم- رماد ونجوم- الثورة- غريبان- عند مهد الربيع- هتاف الأودية- غصن ورد- معبدي في الوادي- عشية رأس السنة- الى الله- هجروها- بلبل ورياح- المليك الشحاذ- الزنبقة الذاوية- الى المصلوب- أنا الشرق- ابنة فرعون- دجلة- النجوى- الى أبي العلاء- رفيقتي- عود الى الوادي- حجارة باريس- الى جبران- حصاد الزمان- البعث- النسر العربي- طريقان).
وقد كتب أمين الريحاني مقدمة لمجموعته ننقلها كاملة, (يدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالفرنسية Vers Libres, وبالانجليزية – – Free Verse أي الشعر الحر الطليق, وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الافرنج وبالأخص عند الانجليز والامريكيين. فشكسبير أطلق الشعر الانجليزي من قيود القافية. أما والت ويتمان – Walt Witman فقد أطلقه من قيود العروض كالأوزان والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزنا جديدا مخصوصا. وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة ومتنوعة. والت ويتمان هو مبتكر هذه الطريقة وزعيمها. وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أمريكا وأوروبا العصريين. وفي الولايات المتحدة اليوم, جمعيات (وتمنية), بين أعضائها فريق من الأدباء المغالين بمحاسن المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية, المتشيعين لفلسفته الأمريكية, اذ أن مزايا شعره, لا تنحصر بقالبه الغريب الجديد فقط بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو اغرب وأجد).
لنأخذ من مجموعة الريحاني, النص التالي وهو بعنوان (إلى جبران) على سبيل المثال:
على شاطئ البحر الأبيض
بين مصب النهر وجبيل
رأيت نسوة ثلاثا يتطلعن إلى المشرق
الشمس كالجلنار
تنبثق من ثلج يكلل الجبل
امرأة في ثوب أسود
وقد قبل التهكم فمها الباسم
امرأة في جلباب أبيض
نطق الحنان في عينها الدامعة
امرأة ترفل بالأرجوان
في صدرها للشهوات, نار تتأجج
ثلاث نسوة يندبن تموز
يسألن الفجر: هل عاد يا ترى, هل عاد!!
رأيته في باريس مدينة النور
يحيي الليالي على نور سراج ضئيل
رأيت بنات تموز, نسوة الخيال
يطفن حوله, في سميرات باريسيات
ورفيقات أمريكيات
يزدنه بهجة, شوقا, ألما ووجدا
البيضاء الجلباب
تفتح له أبواب الفن والجمال
السوداء الثوب
تقلب صفحات قلبه
تطويها بأنامل ناعمة باردة
الأرجوانية الوشاح تقف بين الاثنتين
أفرغت الكأس
كانت الروح مستيقظة… الخ- (1)
أولا: يستخدم الريحاني في مجموعته (هتاف الأودية) عدة أنماط كتابية, فهو يستخدم القافية في بعض النصوص وينثرها بحرية على السطور الشعرية أو قد لا يستخدمها إطلاقا, وهو أحيانا يشطب الوزن والقافية تماما, كما في نص (الى جبران), وهو لا يستخدم نظام الشطرين إطلاقا في المجموعة, لكنه أطلق صفة (الشعر المنثور) على المجموعة كلها, مما يؤكد أن مفهوم الشعر المنثور لديه يعني (ما يشبه قصيدة النثر) ويعني التحرر من نظام القافية ونظام الشطرين المعروف في الشعر العربي, لكنه يستخدم أوزانا مختلفة في القصيدة الواحدة.
ثانيا: يبدو لي أن مقدمة المجموعة كانت تعني بالشعر المنثور من الناحية النظرية (قصيدة النثر), رغم انه يسميه (الشعر الحر) انطلاقا من ترجمة المصطلحين الانجليزي والفرنسي. ولهذا فهو لم يخطئ في الترجمة, ومما يؤكد ذلك انه يقدم قصيدة النثر (الشعر المنثور) عند والت ويتمان بصفتها النموذج (أطلقه من قيود العروض كالأوزان والأبحر العرفية), ومعنى هذا انه يقصد مواصفات قصيدة النثر ولا يقصد غيرها من أنواع أخرى من الناحية النظرية.
ثالثا: تكمن الاشكالية في الفارق بين نصوص مجموعته التي تجمع بين قصيدة النثر بكل مواصفاتها كما في نص (إلى جبران) حيث التحرر تماما من الوزن والقافية وبين نصوص أخرى تشتمل على بعض الأوزان السطرية وبعض القوافي المتناثرة. فهو بالتأكيد لم يكتب شعرا عموديا, في هذه المجموعة.
والخلاصة هي أن مجموعة هتاف الأودية مزيج من قصيدة النثر ونوع آخر ربما مهد لقصيدة النثر, والمرجعية هنا هي الشعر الأمريكي والانجليزي والفرنسي. أما المصطلح (الشعر المنثور) فقد أخذه من مواصفات قصيدة النثر عند ويتمان, لكنه تجاهل مصطلح (الشعر الحر) في التسمية التي اعتمدها وان لم يتجاهله في المقدمة النظرية (الشعر الحر المنثور). أي انه وازن بين المواصفات وبين المصطلح الحرفي فاختار المواصفات مرجعية له, أي (الشعر المنثور), ليكون مطابقا – نظريا- مع مصطلح قصيدة النثر اللاحق, دون قصدية.
رابعا: طبق أمين الريحاني في نص (الى جبران) القصدية من النوع المستعمل, وطبق القصدية في المقدمة النظرية, فهو يقصد قصيدة النثر بالذات لكنه سماها (الشعر المنثور), لأن مواصفاته هي التحرر من الوزن والقافية.
خامسا: انطلاقا من الجدل المتأخر بعد قرن كامل حول (عدم القصدية) لدى كتاب قصيدة النثر في النصف الأول من القرن العشرين ورغم وضوح القصدية من خلال المواصفات, لا التسمية, نقول: ما كتب في النصف الأول من القرن العشرين يعبر عن قصيدة النثر (في مرحلتها الأولى). كما لدى أمين الريحاني, اضافة لشعرنة النثر المكثف لدى جبران خليل جبران, وبتقديري أن جبران هو الأب الروحي الحقيقي لعملية التجسير بين النثر والشعر, ثم جاء آخرون ليكتبوا ما يسمى بالنثر الشعري (مصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيان والمنفلوطي) مثلا. وبتقديري أن القصدية ليست نية الإعلان, بل هي ما اسميه (المتحقق النصي).
في العراق ينشر (رشيد الشعر باق) مقالة عام 1928 عن (الشعر المنثور)- (2)- حيث يرى أن الشعر الحر أو المطلق لا يشترط فيه ان يأتي من وزن واحد وقافية واحدة بل إن يأتي من مختلف الأوزان. أما الذي يشترط فيه- كما يقول كاتب المقال- فهو صوغ الجمل من الألفاظ, تلك الألفاظ التي يأتلف بعضها الى بعض في الأوزان الشعرية حتى تكون الجملة منسجمة فيه فواصل الجمل. أي أن تكون الجملة مستقلة في رسم الخط ويستحسن فيه ربط الجمل بأن يؤتي بعد كل جملة أو جملتين أو ثلاث بجملة صغيرة متكررة لتجلب الأذهان- كما يقول ويرى كاتب المقال أن نموذج الشعر المنثور منتشر عند العبرانيين كما في الأسفار التوراتية, خصوصا نشيد الأناشيد. ويقرر الكاتب أن (من يرى أسلوب سفر نشيد الأناشيد وتوقيع نغماته يحكم بلا تتردد أن ما يأتيه أدباء عصرنا مثل: جبران ومفرج ومي وغيرهم, منسوج على منواله ومفرغ في قوالبه ومضروب على غراره), ويرى أن الأسفار العبرية كتبت أصلا بدون قافية أو وزن, ويقول: إن العرب منذ الجاهلية كتبوا الشعر المنثور ثم كتبه المتنبي في نثره وكتبه المعري في (الأيك والغصون) و(ملقى السبيل) وكتبه ابن الخلفة في القرن الرابع عشر وسماه (البند). ويعلق (محرر مجلة لغة العرب) قائلا بأن رشيد أفندي الشعر باق يقول بأن أول من تعاطى الشعر المنثور في عصرنا هو أمين الريحاني. لكن الشعر المنثور هو ما تلتزم فيه القافية ولا يلتزم فيه الوزن. وأول من أبدع الشعر المرسل عندنا هو جميل صدقي الزهاوي في جريدة المؤيد القاهرية. وله قصيدة من الشعر المرسل في ديوانه (الكلم المنظوم) نشرت سنة 1908م. إذن ثبت- يقول المحرر- أنه لم يسبق أحد الأستاذ الزهاوي في ابداع الشعر المرسل). أمام هذه الوثيقة- المقال نتأكد أن أمين الريحاني كتب في مجموعته (هتاف الأودية)- الشعر المرسل والشعر المنثور. أما الزهاوي فقد كتب الشعر المرسل (وزن بلا قافية) عام 1908, لكن (مجلة الأوديسية) اللبنانية تقول (عام 1905 كتب أمين الريحاني اول قصيدة من الشعر المنثور, سرت مثالا لحركة شعرية ازدهرت بعد نصف قرن- قصيدة النثر- في الشعر العربي)(3).