آخر المواضيع

  • مواضيع مميزة
  • <-> عساكم بألف خير <-> الفرق بين الأنا والأنانية <-> مضافة العمادة <-> زومبي <-> الفن القصصي بين النمطية والحداثة البنيوية <-> هي وجسد نصّه <-> قيد <-> قلب .. الفائز بالمركز الأول في المسابقة 2021 <-> استغفال\\ الفائز بالمرتبة الثانية في المسابقة 2021 <-> هلع حقيبة\\ الفائز بالمركز الثالث في المسابقة 2021 <->
  • مواضيع ننصح بمشاهدتها
  • <-> المسابقة التشاركية- بنك المعلومات <-> فن الرواية \ كولن ولسون <-> الكذاب البريء!! <-> قنديل الرغائب <-> كيف تستغني عن مراكز رفع الملفات <-> ما هي القصة القصيرة جدا \ م الصالح <-> مصراع نور \ م الصالح <-> نبارك للفائزين في المسابقات الرمضانية <-> الوطن ..خديعة كبرى <-> الومضة الحكائية والشعرية ..موروث عربي <->
  • مواضيع إلزامية
  • <-> عضو جديد! تفضل من هنا لو سمحت <-> أهلا بكم في منتداكم الجديد <->

    صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
    النتائج 1 إلى 10 من 14

    الموضوع: فلسـفة الحـــياة ما بعد المـــوت

    1. #1


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10

      فلسـفة الحـــياة ما بعد المـــوت

      فلسـفة الحـــياة ما بعد المـــوت

      فـــــــــــــــــي

      الأســــــــــــاطـير القـــــــديمة

      رسالة تقدمت بها نور حكمت خضوري

      إلى

      مجلس كلية الآداب بجامعة بغداد

      وهي جزء من متطلبات الحصول على ماجستيرآداب في الفلسفة

    2. #2


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      المقدمة: رغب الإنسان بترك أثره لمن بعده فلمْ يجد أمامه غير الحجر والكلمة، ولكنه بمرور الزمن أدرك أن الحجر لنْ يصمد بوجه العوامل الطبيعية . مما دفعه إلى اللجوء نحو الكلمة لتكون شاهدة على إبداعاته.. ولأن الإنسان حينها كان يواجه العالم بمفرده، فلم يسعه إلا أن يؤقلم ذاته مع البيئة المحيطة به. ولكي يحقق ذلك اتجه نحوه الأسطورة فكانت نتيجة لُمخيلة الإنسان البدائي، المُخيلة المبنية على حقائق في الحياة، كالظواهر الطبيعية وحياة الإنسان الاعتيادية وأعمال القدر وأعمال الإنسان .
      الأسطورة لا تسبح في خيال لا ضابط له، بل هي تسير في مسارات محددة من الفكر الخلاق، فحين تصبح الحقيقية ليست مجرد شيء يرى ويتأمل، بل لمحة خاطفة محملة بعواطف الخوف والأمل والفزع والرغبة، عندئذٍ يبحث الإنسان عن الموضوع الذي يمكن أن يجد فيه نوازع نفسه، ويجد في تمثله حلاً لمشكلته. ومشكلته الأولى هي أيجاد حل وسط بين المتناقضات كالحياة والموت ـ والموت والخلود … الـخ .
      الأسطورة في المجتمعات البدائية في تركيبها الأصلي الحي هي حقيقية تعاش، كونها تسرد مواقف وأحداث تاريخية موغلة في القدم. كانت في نظر البدائيين كالقصص الواردة في الكتب المقدسة في الديانات السماوية كقصة الخليقة.
      أولاً :- مشكلة البحث وأهميته
      مشكلة البحث هي في الكشف عن الأبعاد الفلسفية التي اكتنفت الفكر القديم، وأن هذه الأبعاد كانت نتيجة النظرة التأملية والرؤى الفلسفية، التي استطاع بها الإنسان تحليل الظواهر الطبيعية التي تحيط به، وهي نتيجة التساؤلات العديدة التي طرحها على نفسه، وخصوصاً ما يتعلق بمسألة الحياة والموت وعالم ما بعد الموت .
      ثانياً :- أهداف البحث

      توضيح العوامل التي ولدت فكرة " الحـياة ما بعد الموت " في الأساطير القديمةتشخيص فكرة القضاء والقدر ، وكيف كانت هناك على الرغم من القدرية حرية للبشر ضمن نطاق الكون .التطرق إلى فكرة الموت والخلود ، وأن الموت رغم كل المحاولات للتغلب عليه فهو مقدر ومحتم على بني البشر ، كما أن الخلود المادي محال ، مع إمكانية خلود الاسم والذكر الحسن والأعمال .الخروج باستنتاجات وتوصيات توضح أوجه الشبه بين الحضارات القديمة الثلاث لتقارب المحتوى الفكري آنذاك .
      ثالثاً :- فرضية البحث
      نص فرضية البحث على كيفية الوصول إلى فهم جذري ومعمق لأسلوب الفكر القديم التأملي من خلال الصور الرمزية التي اعتمدها الإنسان في التعبير عن تساؤلاته، ووضع الحلول البسيطة التي استطاع من خلالها الوصول إلى فهم ولو بسيط للعالم المحيط به، وتأثير العوامل المختلفة سواء كانت بيئية أو اقتصادية أو سياسية في تباين الصور التي رسمها ما بين حضارة وأخرى.
      رابعاً :- منهجية البحث
      تم اتباع المنهج التاريخي المعتمد على الأسلوب الاستقرائي الاستنباطي في البحث حيث تم تتبع تطور فكرة الحياة ما بعد الموت تاريخياً عبر مراحل زمنية متباينة بدءا من الأقدم إلى الأحدث مع استنباط أثر الفكرة على حياة الإنسان اليومية .
      خامساً :- هيكلية البحث

      تم تغطية البحث عبر أربعة فصول، وتضمن الفصل الأول الحديث عن الحياة ومعانيها، وأن الإنسان هو الذي يضفي على الحياة معناها، ونظرة الإنسان للموت في التفكير القديم وكيفية إدراكه.الفصل الثاني تم التطرق فيه للحياة ما بعد الموت في حضارة وادي الرافدين كما ضم مسألة القضاء والقدر والموت والخلود مع التأكيد على حتمية الموت واستحالة الخلود الجسدي مع إمكانية الخلود المعنوي، ثم الحديث عن الثواب والعقاب وكيف أنهما كانا في الحياة الدنيا، وارتباط الخطيئة بالعقاب والموت، ثم وصف العالم الآخر وطبيعته مع ذكر حالة الأموات فيه وعلاقتهم بالأحياء من خلال طابع المنفعة المتبادلة بينهما .في الفصل الثالث نظرة حضارة وادي النيل للحياة ما بعد الموت، وكيف تولدت فكرة الحياة ما بعد الموت وتقسيم النفس الإنسانية. ثم الحديث عن تطور الفكرة في الممالك الثلاث؛ ففي المملكة القديمة كانت الحياة ما بعد الموت وقفاً على الفرعون مع التأكيد على أهمية الاحتياجات المادية لضمان الخلود والبعث، ثم تأتي المملكة الوسطى والحديثة حيث تقل أهمية الاحتياجات المادية نتيجة اضطراب الأوضاع آنذاك ويزداد الاهتمام بالاحتياجات المعنوية – الأخلاق والأعمال…الـخ-، كما تصبح الحياة ما بعد الموت مُشاعة بين الناس جميعاً بالإضافة إلى الفرعون، مع وصف العالم الآخر والحساب والجنة والنار في عالم الأموات .أما الفصل الرابع فيتطرق إلى الحياة ما بعد الموت في حضارة اليونان القديم، وعن القضاء والقدر والموت والخلود والنفس الإنسانية، مع وصف العالم الآخر وموقعه، وحالة الأموات فيه والثواب والعقاب والجنة والنار. ثم يُختتم البحث بالاستنتاجات والتوصيات .
      سادساً : الحدود الزمنية للبحث :-
      تتناول هذه الدراسة العصور التاريخية للحضارات القديمة حين بدأ الإنسان وبالتدريج ، باستخدام الكتابة لتدوين شؤون حياته اليومية ، في حين لم تكن معروفة لديه مثل هذه الوسيلة في العصور السابقة (عصور ما قبل التاريخ) . وتحدد هذه الحدود الزمنية من(2850ق.م) والتي تعرف بـ عصر فجر السلالات إلى العصر الإغريقي الروماني (146 ق.م) وهو تاريخ غزو الرومان لبلاد اليونان حتى (565م) وذلك تاريخ وفاة الإمبراطور جوستنيان .

    3. #3


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      الفصل الاول
      الحياة والموت
      "نظرة عامة "

      أولاً : الحـيــاة
      1-الحياة لغةً
      هي نقيض الموت، كُتبت في المصحف بالواو ليعلم أن الواو بعد الياء في حد الجمع . قال ابن جني عن قطرب: حَييَ حياةً وحَيَّ يَحْيَا ويَحَيُّ فهو حَيِّ، وللجميع حَيُّوا، بالتشديد، وفي لغة أخرى قيل: حيَّ يحيُّ وللجميع حَيُوا، خفيفة . والمَحْيا: مفعلٌ من الحياة، ويقال: محياي ومماتي، والجمع المحايي . وتأتي الحياة أيضاً بمعنى الرزق الحلال حيث"…روى ابن عباس عن قوله تعالى : "فلنحيينه حياة طيبةً" هو الرزق الحلال في الدنيا..، وقيل قد تعني الحياة الطيبة الجنة، والحي من كل شيء : نقيض الميت، والجمع أحياء.
      2- النظرة تجاه الحياة

      اتسمت نظرة الفلاسفة تجاه الحياة بالتضاد، حيث أنهم قسموا الحياة إلى نوعين؛ الأول: حياة إرادية (ما يسعى له الإنسان في حياته الدنيوية من المأكل والمشرب والملذات ) والثاني: حياة الطبيعة (هي بقاء النفس السرمدي في الغبطة الأبدية بما تستنفذه من العلوم الحقيقية، وتبرأ به من الجهل ، ولذلك وصى أفلاطون طالب الحكمة بقولهِ : مُت بالإرادة تحي بالطبيعة )
      الحياة مليئة بالأضداد ( لذة وألم، خير وشر، نشاط وكسل، حب وكره) التي لعبت دوراً بارزاً في بلورة النظرة نحو الحياة .
      فهناك من نظر بصورة إيجابية نحوها، فقالوا إن لفظة الحياة تثير في داخلنا الكثير من الوعود والآمال ، كون الحياة تعني عندهم الوجود، والقوة، والمبادأة والخلق والإبداع . ومن هنا فقد عدو الحياة أسمى بلا شك من كل شيء آخر.
      أما الفريق الثاني فوجد أن الحياة ليست سوى لفظة تعني الجهل، وحين يقومون بتعريف ظهورة ما بأنها حية فهم يرون بأن القول بأنها حية يساوي قولهم بأنها ظهورة تجهل علتها القريبة أو شروطها.
      الاختلاف في النظرة تجاه الحياة يعود سببه إلى عامل البيئة، حيث تؤثرالبيئة على ذهنية الإنسان وطباعه ونفسيته ، وهذا ما أكده ابن خلدون في مقدمته الثالثة الموسومة بـ"في المعتدل من الأقاليم والمنُحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم".
      وكان هنالك عناصر أخرى لعبت في بلورة طبيعة النظرة تجاه الحياة؛ فمثلاً مؤيدو النظرة التفاؤلية رأوا أن معنى الحياة غير كامن فيها كما يكمن الثعبان في جحرهِ، أو كما يتوارى الجنود في مخبئهم، وإنما يكون فينا نحن– الإنسان– أكثر مما يكون في الحياة. و لا توجد في الحياة ذخيرة حاضرة من المعاني، بل هناك قوى كامنة بإمكان الإنسان أن يضع فيها ما يريد من القيم. وفي ضوء ذلك أصبح الإنسان هو الأساس وأن الكمال لا وجود له بذاته، والإنسان هو الذي يوجد القيم. وهو الذي يقلق على حياته باذلاً كل الجهود في سبيل أن يحياها على الوجه الأكمل، ويحس بأن حياته هي من عمل يده-في جانب منها على الأقل- وهو لهذا يحس بأن لديه دوراً يؤديه في هذه الحياة.
      3- معاني الحياة
      حينما كانت الحياة بدائية استمد الإنسان معانيه من الطبيعة، كونه في فجر وعيه شاهد الكثير من مجاميع الحيوان (مفترسها وأليفها)، وشاهد أصنافاً من الطيور (الجارح منها ومادون ذلك)، وقد كانت هذه الحياة الحيوانية بمثابة مدرسة لهم آنذاك.
      من أهم معاني الحياة الرئيسية :

      القوة: كان ثمن هذا التقدم هو المنافسة والصراع والبقاء للأقوى، فمملكة الحيوان كانت بالنسبة إلى مملكة النبات طفيلية، فالحيوانات في الأقل غير البحرية ، ما كانت لتظهر إلى حيز الوجود لو لم تكنْ النباتات قد سبقتها إلى الظهور ، فكانت بذلك مصدراً يزود الحيوانات بالهواء وبالطعام اللازمين لحياتهما، وبعض أنواع الحيوان تحافظ على كيانها بقتل أنواع أخرى من الحيوانات وافتراسها، والإنسان اصبح من صنف آكلة اللحوم منذ الوقت الذي نزل فيه من ملجئيه القائم في الأشجار وغامرعلى سطح الأرض قاتلاً أو مقتولاً، ممجداً القوة والبأس، اتصف أبطال الأساطير كـ"كلكامش وانكيدو" بالقوة.اللذة: كان الإنسان يفكر حسياً، مما جعله لا يجد اللذة والمتعة إلا عن طريق ما يحسه، وهكذا فقد رأى أن معنى الحياة يكمن في المتعة. كما أن الصفة الغالبة على صاحب اللذة هو حُب الحياة لدرجة كبيرة ، حيث قيل بان الإنسان يحب اللذة لانه يُجب الحياة.العمل: الحياة في صميمها فعل هو الذي يوجدنا أو هو الذي يخلع علينا صفة الوجود.الحب: يتجسد بعدة وجوه فهناك حب الوطن ، وحب الآخر ، وحب الإنسانية . وهو الكفيل بملء قالب الحياة الفارغ! وهو سبب تطور الحضارة ، حيث تعمل أعداد هائلة من البشر سوية من أجل أهداف واحدة ، ومثل هذه الوحدة لا تحصل بسبب اجتماع الأفكار المجردة، بل بسبب اجتماع المشاعر التي تكون الأفكار من خلالها عاطفية وتصبح معتقدات ودوافع، اذاً فيمكن بـ"الحــب" أن نعيش و نعترف بأن الحياة جديرة بالعيش .الفكر: يمكن للفكر أن يخلع على الحياة دلالتها، كونه حاجة ضرورية تكتمل معها إنسانية الإنسان الذي يفكر ليعيش! حيث أن الكائن البشري بالفكر سينتقل من مستوى الحيوانية إلى مستوى الإنسانية.

    4. #4


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      ..

      ثانياً : المــــوت
      إن دراسة أحلام البشرالمعاصرين تكشف عن نماذج من أحلام لا تختلف، في كثير أو قليل عن أساطير العهود الغابرة التي كانت تعبيراً لا واعياً بشكل ما، عما يكنه الفرد في صميمه نحو فكرة الموت، وقد حاول الإنسان وما زال الاقتراب من مسألة الموت عن طريق ابتكار مجموعة من الرموز عبرت عنها الأسطورة في القديم، وتعبر عنها أحلامه في الزمن الحديث.
      ولكن الموت ظل محاطاً بغموض ابدي على مرالعصور ومن هذا اللغز وعليه بنيت أفكار فلسفية…وتجاه هذا اللُغز أبانت الأديان المتعددة مواقفها. فكل "… إنسان يفكر بالموت والعدم في لحظة من لحظات حياته ، وقد تراوده الفكرة تلقائياً ، وقد تبرز أمام عينيه اضطراراً عندما يفقد أحد أعزاءه أو ذويه، أي انه سيجد الموت ماثلاً أمامه بكل آثارهِ القاسية من خلال(موت الآخرين).
      1- الموت … لغـــةً
      يعني :" السكون ، وكل ما سكن فقد مات، وقيل أن الموت.. يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة :
      فمنها ما هو بازاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى" يحيي الأرض بعد موتها"،
      ومنها زوال القوة الحسية كقوله تعالى"يا ليتني مت قبل هذا"
      ومنها زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى "أو من كان ميتاً فأحييناه" و "وإنك لا تسمع الموتى"
      وقد قيل المنام :الموت الخفيف والموت:النوم الثقيل
      وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة : كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية وغير ذلك ؛ ومنه الحديث : أول من مات إبليس لأنه أول من عصى،
      وقد يُطلق الموت على من لا يفهم ولا يتمتع بالذكاء فيقال…رجل موتان الفؤاد :غير ذكي ولا فهيم، كأن حرارة فهمه بردت فماتت، وقولهم ما أموته إنما يرُاد به ما أموت قلبه..
      ويطلق أيضا على الجنون فيقال عنه المُوتة بالضم : جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد إليه عقلة كالنائم والسكران، وتستمر الكاتبة في اشتقاقات الكلمة لغويا

      2- إدراك الموت
      هناك اختلافات كبيرة في إدراك الموت أو الخوف منه من شخص إلى آخر حسب العصر والمستوى الثقافي للفرد. فإدراك الموت قد يعود إلى الخبرة التي تحتاج إلى الثقافة، والإنسان آنذاك لم تكنْ لديه الخبرة الواسعة والمستوى الثقافي العالي، ومع ذلك كان لديه معرفة بالموت.
      لا يستطيع الإنسان إدراك الموت إدراكاً حقيقياً، وكل الذي يدركه هو موت الآخرين، ومثل هذا الإدراك ليس إدراكاً حقيقياً في ذاته، بل هو أدراك للموت في آثاره.
      خلاصة القول إن تجربة الموت والإحساس بها مستحيل، فهي ليست بتجربة ولا عملية مدركة من قبل الإنسان، فالمشكلة هنا ان الموت حالة صعب على الانسان لمسها والاحاطة بتفاصيلها لعدم وجود الدلائل الحسية المنقولة حول ماهيته، فاصبحت هذه الماهية هاجس وشعور وجداني وليس تجربة وخبرة منقولة.
      3- الخوف من الموت
      هناك نوعان من الخوف من الموت، نوع سوي يحس به كل إنسان حينما يتأمل فكرة الموت، ونوع شاذ يتخذ طابع وسواس أليم لا يكاد يفارق صاحبه.
      أما النظرة الميتافيزيقية للموت، فترى أن الخوف من الموت ليس مجرد خوف عادي، بل هو حصر أو قلق يمتزج في الوقت نفسه بمشاعر الفزع والجزع والخشية والرهبة..الـخ .
      القلق من الموت قلق فريد في نوعه : لأنه لا سبب له سوى الوجود ذاته، فهو مرض ميتافيزيقي لاعلاج له، إنها لعنة التناهي التي تحل بالإنسان منذ ولادته أو كأنما قد كتب عليه أن يموت لمجرد أنه قد ولد! وآية ذلك أن الإنسان يموت لا لأنه يمرض أو يهرم أو يُصاب بحادث بل لمجرد انه يولد أو يعيش.
      يختلف مفهوم الموت باختلاف وعي الناظر إليه :-

      الإنسان يخاف المجهول، فلا غرو إذا خاف الموت خوفاً يكون بمقدار جهلهِ أسرار الكون والحياة. ولقد قيل الإنسان عدو ما يجهل. وقديماً كان الإنسان يخاف الموت لما يحدثه من خراب، ولأنه لا يستطيع أن يُزيل الإبهام الذي يكتنف نوع الاستمرارية للإنسان بعد الموت. كل هذا دفع إلى القلق تجاه الموت، حيث يجد الإنسان نفسه وسط حالة من عدم اليقين والاضطراب تولد لديه خوفاً من الموت إذ سوف يصبح الموت المصير الذي لا يمكن تحاشيه، وهذا سيقترن في أفضل الأحوال بالعدم أو بالتحول إلى مجرد ظل سقيم .الإنسان يكره أن يُفارق ما تعلق به قلبه ، فيكون خوفه من الموت بقدر لهفته على فراق ما تشبث به في حياته.نعلم علم اليقين أن الموت واقع لا محالة، ولكننا من ناحية أخرى في جهل مطلق فيما يتعلق بالزمان الذي سيحدث فيه، وهذا يعني بأن الموت لا يُنتظر بل يفاجئ الإنسان في أي وقت كان .الإنسان يهاب الموت لأنه يمثل تلك القوة اللاشخصية التي تُحيل الذات إلى مجرد موضوع ، كونه – أي الموت – لا يعبأ بالأفراد ولا يُقيم أدنى تفرقة بين الأشخاص، بل يشمل الجميع بدون تميز ويضرب الذوات البشرية على اختلاف قيمها – بدون اكتراث! دون أن يتمكن الشخص من القيام ببعض الاحتياطات لتفاديه، أو اتخاذ الإجراءات اللازمة للتحامي منه؛ لأن الموت ليس هو المرض أو العدوى أو الشيخوخة أو غير ذلك كما أن الفناء ليس هو الإهمال أو التهاون أو التعرض للحوادث.
      إذن الموت لا يعرف التمييز بين ملوك وسوقة، أو بين علماء وجهال وهذا هو أقسى ما يجزع الإنسان منه حيث أنه يعاملنا معاملة الغرباء، ويتبع مع الكل سياسة ديمقراطية أساسها المساواة المطلقة . فالإنسان يدرك أنه لن يموت سوى مرة واحدة، وأن العالم لنْ يحفل بموته، مما يدفعه إلى الخوف من الموت .
      عموماً فالبشر يفكرون بالموت لأنهم يريدون أن يجدوا جواباً أو حلاً لذلك السر الغامض الذي يقلق بالهم وفكرهم وقلبهم، ألا وهو سر المصير البشري ؟ وقد يقول قائل أننا لا نعرف ماذا عسى أن يكون الموت، كما أننا قلما نفكر فيما ينتظرنا بعد الموت! وفي الحقيقة الإنسان يخاف الموت لان المجهول يرهبه حيث يخشى من مغادرة وضع يعرفه ويألفه إلى آخر هو به جاهل، كما أنه يخاف من أن يكون الموت هو المحطة الأخيرة التي لنْ يكون بعدها انتظار .
      4- الموت في الفكر القديم
      أثارت فكرة الموت الغامضة والمُحيرة انتباه الإنسان وقادته إلى محاولة ممارسة شعائر مُعينة لتجاوز تلك الحركة المربكة؛ فمن أولى الممارسات الواعية أن إنسان النيدرتال كان يتخلص من موتاه بطريقة شعائرية بدل أن يعتبر جثثهم كأنها أقذار، حيث دفن معهم الآلات الحجرية وأدوات مصنوعة من العظام والقرون وبعض الأزهار البرية. وهذا دليل على اعتقاد الإنسان آنذاك بالحياة بعد الموت، ولكن فكرة الموت القديمة كانت مختلفة عن فكرة الموت الحديثة، فالفكرة البدائية لا تعتبر الموت فعل الاحتضار ومفارقة الحياة كما يقول القاموس، بل هو ضرب من الحقيقة المجسدة.
      نجد أن الحياة تعتبر بلا نهاية إلا إذا تدخلت ظاهرة أخرى وهذه الظاهرة هي الموت، ثم إن العبارة القائلة بأن الآلهة قد أمسكت الحياة عن الإنسان بأيديها دليل على أن كلكامش يأكل نبتة الحياة كمادة لكسب الخلود إلا أن الثعبان يسرقها منه، ففي هذه الملحمة كان التناول من مادة مُجسمة الحد الفاصل بين الموت والخلود.
      وبما أن الموت كان واقعة لابد منها؛ فان الإنسان البدائي قد طمأن نفسه بالنظرإليه بصورة مادية وكأنه حالة من حالات الصيرورة ـ الكينونة، لأنه آنذاك لم يمتلك القدرة في البحث عن السبب بعيداً عن التجربة. يتمثل الموت لديه بأنه ذات صفة حسية، يؤول حدوثه تارة كسبب وتارة كنتيجة؛ فمثلاً في ملحمة كلكامش كان سبب الموت هوأن الآلهة أمسكت الحياة بيدها ونتيجة الموت هو عدم الخلود.
      حتمية الموت بثت الرعب في نفسية الإنسان القديم آنذاك ، لانه كان مُحبا للحياة الدنيوية أكثر من أي حياة أخرى، وآية ذلك في ملحمة كلكامش "…الحياة خير من الموت وهي على ما فيها من شر، خير ألف مرة من الموت ؛ بل لا سبيل مُطلقاً إلى المفاضلة بينهما فنحن نعرف خير الحياة وشرها ، على حين لا ندري عما وراء الموت من خير أو شر. وفي الأوذيسة ما يؤكد على حب الحياة وأفضليتها على (الحياة ما بعد الموت) في الحديث الذي دار بين أوذيس عندما ذهب إلى مساكن الموتى وبين طيف" أخيل" حين خاطب الطيف أوذيس بقوله "لا تخاطبني بكلام تُعزيني به عن موتي يا أوذيس، إني لأُفضل وإيم الحق أن أكون أجيراً في خدمة رجل رقيق الحال، ليس عنده من القوت إلا النزر القليل، وأظل حياً على وجه الأرض، على أن أكون ملِكاً على الأموات جميعاً.
      لذلك ولكي يخففوا من حدته ابتكر الإنسان قديماً عدة وسائل للخلود تدل على طبيعة الفكر الإنساني آنذاك؛ فالتحنيط لدى وادي النيل هو تخليد وإنكار للفناء، والموت لديهم تغيير للشكل فحسب.. ، وهو وسيلة لإعادة الحياة من جديد أو للاتصال بالعقل العلوي والسعادة الابدية اذا كان المواطن صالحا، وما الأهرامات والأبنية الشاهقة والمقابر الجنائزية والنقش عليها و نحت التماثيل
      الشبية بالموتى إلا تخليد آخر لعصرهم. وقد وصل إنسان الحضارة اليونانية والهندية خصوصاً في القرن السادس ق.م إلى فكرة تأملية تساعده في تخفيف رهبة الموت ومعاناته، فقد اعتقد أن الموت ليس نهاية وجود الحي، حيث كانوا يرون أن النفس تستمر حية للتقمص في كائن حي آخر، وهو قد يكون من النوع ذاته أو أرفع أو أدنى . وفيما إذا كان التقمص التالي سيكون ترقية أو تدنية، فالأمر يتوقف على التصرف الخُلقي للنفس في التقمصات السابقة. وقد يكون عدد الولادات الجديدة لانهاية له، وكان هذا ينظر إليه على أنه اكبر معنى من الميتات المتعاقبة المعترضة. والمؤمن بالتقمص كانت الغاية عنده- على بعدها عن فكرة الخلود- أن يبلغ بسلسلة الولادات الجديدة نهايتها وكان يؤمن بأن مثل هذا كان يمكن تحقيقه عن طريق العيش بتقشف وفضيلة. ولا نرى هذه الحالة - اي حالة التقمص - لها أي وجود في حضارة وادي الرافدين ، وقد رأينا كيف أن كلكامش قد أخافه الموت عندما شاهد موت صديقه انكيدو فقال "لقد غدا صاحبي الذي أحببت تراباً، وأنا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين".
      نستنتجُ من كل ذلك أن تاريخ الأسطورة كان تاريخ صراع الذات مع الموت والسعي باتجاه المطلق ونعني به الخلود، ففي المراحل المبكرة كانت الذات الإنسانية مسحوقة تجاه الموت كما أن العالم الأسفل كان ذلك العالم المظلم المخيف المسيطر الذي لامفر منه على الإطلاق. وبتقدُم الزمن وتطور الفكر بدأ الإنسان بالتأمُل فيما حولِهِ من ظواهر طبيعية تحملُ في طياتها خواص ثنائية (حياة وموت) كشروق الشمس ومغيبها ، حيث أُعتبر الغرب مقابلاً للشرق..كرمز للموت مقابل الحياة.

    5. #5


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      ثالثاً : عالم ما بعد المــــوت
      يعتبر عالم ما بعد الموت من الظواهر الميتافيزيقية التي أثيرت من قبل الفكر الإنساني انطلاقا ًمن نظرة تأملية وتساؤل تحليلي لعالم فقد المعالم الملموسة والمحسوسة على أرض الواقع، عالم غريب، غامض ومجهول أثار تساؤلات عدة ووضعت عليه علامات استفهام كثيرة منذ امتلاك الإنسان القدرة على التأمل والإدراك الواعي لما يحيط به، هذا العالم هو القاسم المشترك للفكر الإنساني بين الحضارات القديمة والمجتمعات الإنسانية الأقدم، بغض النظرعن وجود أي دلائل للاتصال والتأثير فيما بينهم وخصوصاً في بداية تنامي تلك المجتمعات، وتظهر أهمية هذا العالم وقيمته الفلسفية كونه ظاهرة ووجود فكري وشعور وجداني غير مادي بانت تأثيراته على الإنسان منذ القدم وحتى الوقت الحاضر، فهوالحلقة المفقودة لدورة الوجود عند الإنسان كونه عامل الوصل ما بين الموت والحياة، وقد أصبح بذلك العلاج الشافي للقلق الدائم المسيطرعلى الإنسان من فكرة الفناء والعدم.
      وهنا أذا جاز لنا التعبير نستطيع القول أن عالم ما بعد الموت كان فكرة من حيث النظرة الأولى للإنسان تجاه المجهول الذي يحيط بما بعد الموت، وبالتالي أصبح صورة حينما سعى الإنسان لرسم المعالم التي يستطيع أن يؤمن بها. أذا كان ذلك العالم وهو كفكرة المشكلة والسبب الرئيس في خلق الرعب والخوف من الموت وأصبح بالتالي- من خلال نظرة الإنسان التأملية له- صورة ذات معالم مرسومة ساعدت في عملية الموت وتخفيف وطأتها على الإنسان، وخلق قيم ومعايير إنسانية للإستفادة منها ضمن المجتمع بما أثاره ذلك العالم من تساؤلات ورؤى فلسفية حول قيمة الإنسان ووجوده في الحياة إضافة إلى تحقيق عملية التواصل للعلاقة الروحية مابين الأحياء والأموات، وكل هذا كان بمساعدة ظاهرة الإيمان،فهي سمة وجدانية ميزت الإنسان عن باقي الكائنات الحية لما لها من مدلولات فكرية ومعنوية، فقد أكد عليها الفيلسوف اليوناني ( أفلاطون) حيث أشار إلى أن الإيمان بالحياة الأخرى يمد الإنسان بالشجاعة لمواجهة الموت وتحمل موت أحبائنا. فالإيمان هو تعبير عن مصداقية الإنسان بالفكرة وجعلها ظاهرة فعلية ووجود ذاته والسيطرة على مخاوفه وجلب الطمأنينة إلى نفسه، من هنا نرى أن عالم مابعد الموت هو حالة ثنائية المدلول إذ جاز لنا التعبير انطلاقاً من تفعيل عامل الإيمان، ففي الحالة الأولى_أي الفكرة_ فهو عالم غامض، مجهول له تأثيراته المخيفة والمرعبة التي تعصف بالشعور وقرارة النفس لفقدانه المعالم المدركة والملموسة من قبل الأنسان على أرض الواقع، فيقف في حيرة وارتباك ودهشة وخوف من الموت. أما في الحالة الثانية_ أي الصورة_ وبوجود الإيمان بالعالم الاَخر، سنرى كيف أن الانسان يتمكن من التعايش والتكيف مع مشكلة الموت وجلب الطمأنينة والسلام إلى نفسه ومحاولة الوصول إلى المكانة المثالية في الحياة التي تخوله للارتقاء في العالم الاَخر.

    6. #6


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      .

      الفصل الثاني
      فلسفة الحياة ما بعد الموت في حضارة وادي الرافدين

      اولاً : القضاء والقـــدر
      لقد اعتبر إنسان وادي الرافدين قديماً ، الكون عبارة عن دولة كونية ، وكل ما فيه – أي الكون – كان يعد عبارة عن ذوات فردية ، فكل حي وجماد وفكرة مجردة وكل حجر وكل شجرة وكل خاطر يتمتع بإرادة ذاتية وشخصية خاصة . لقد تمثل الكون في ذهن الإنسان بهيئة واحدة آلا وهي نظام من الارادات ، فالكون ككل منسق إنما هو مجتمع ، أو دولة . فكانت هذه الدولة الكونية تضم إلى جانب الشخصيات الفعالة في هيئة الحكم أعضاء لم يكن لهم نفوذ في السياسة ولا دور لهم في الحكومة ومنهم على سبيل المثال الإنسان . فقد كانت مكانة الإنسان في دولة الكون توازي بالضبط مكانة العبد في دولة المدينة البشرية .
      لقد تميز كون وادي الرافدين بالحركة والحيوية ، لأنه تمتع بالتعاون في ما بين الارادات المحلية لمناصب الدولة الكونية ، وتكيف الواحدة بموجب الأخرى ، وفي تجميع قواها للعمل معاً في القضايا التي تهم المجموع العام . ولتجميع الارادات والقوى ، يعقد الكون اجتماعاً عاماً للمواطنين كافة ويرأس آنـو(*) الاجتماع ويسير فيه النقاش لاتخاذ القرارات الخطيرة بشأن مصائر البشر وكل ما في الحياة ، وقبل اتخاذ القرار يتم مناقشته وبحثه إلى أن يتبين الرأي الغالب ، ثم تتم الموافقة عليه من قبل الآلهة ويتم تنفيذها من قبل انليل(1) ، وبهذا فقد اعتبرت سلطة الآلهة غير المحدودة على الإنسان ، من أول واخطر أنواع السلطات التي عرفها الإنسان وينضوي تحت هذا السلطان ملك والفلاح على حد سواء(1) ، وآية ذلك القول الذي جاء على لسان أحد الملوك حيث يصف كيف أنه أحد الذين قدرت الآلهة لهم مصيراً جيداً(2) . وقد اعتقد إنسان وادي الرافدين بان الآلهة مثلما تخلق الحياة الجيدة ، تخلق الحياة الرديئة أيضا ، فقد جاءت في ملحمة كلكامش(*) حديث ننسون والدة كلكامش مع الإله شمش تلومه بقولها "علام أعطيت والدي قلباً مضطرباً لا يستقر ؟ الآن حثثته فاعتزم سفراً بعيدا على موطن خمبابا"(3) . أي انه لم يذهب بإرادته ، بل بإرادة الآلهة وقضاءها لان الإنسان كما رأينا لم يكنْ له دور في الدولة الكونية وان الآلهة قد أوجدت الإنسان لمنفعتها بوجه خاص وان غايته ليس إلا خدمة الآلهة(4) . ففي أسطورة الخليقة خلق الإنسان بعد أن نطق الاله مردوخ الخالق عرضاً : ليتحمل – يقصد به الإنسان – كدح الآلهة حتى نستطيع التنفس بحرية ، ومثل هذه النظرة نجدها في أسطورة سومرية اكثر قدماً تقول: أن انليل شق الأرض بفأس حتى ينبثق الناس منها كالنبات ثم تحيط الآلهة الأخرى بـ" انليل" يرجونه أن يخصص لهم خدماً من السومريين الذين يطلعون من الأرض(5) . هكذا قضت الآلهة بخلق الإنسان تلك الآلهة التي كانت تجتمع كما ذكرنا كل سنة وفي مطلع كل عام وفي عيد الإله مردوخ البابلي في مجلس خاص وتحدد المصائر للسنة كلها(6) . لقد اعتقد إنسان وادي الرافدين بان تحقيق الشيء يتم من خلال النطق باسم الشيء ، فـ" أسطورة الخليقة"(*) تبدأ بالتأكيد على انه في البدء لم يكن هناك سوى الهيولى – أي المياه الأزلية – ابسو(**) وتيامه(***) ، ولم يكن هناك شيء له اسم .
      عندما كانت السموات من فوقنا بلا أسماء

      ولم يكن تحتها من مسكن يدعى بالاسم
      لم يكن لأي شيء اسم ما .
      وما دام لم يكن أي شيء يمتلك اسم فانه لم يكن في الوجود . فالعبارة الاكدية التي تقول(كل شيء يحمل اسما) تشير إلى الشمول العام..(1) . هكذا فبدون أن يُنطق باسم الشيء سيكون الشيء في حيز العدم ، أما حين تسنطق الآلهة باسم الشيء فانه سيظهر إلى حيز الوجود ، وهذا ما حدث في خلق العالم والإنسان كما أشرنا فيما مضى ، حيث قضت الآلهة بخلقهما فنطقت بذلك فخرج من حيز الكون كُلاً من العالم والبشر وتحقق الوجود بإرادة الآلهة وقضاءها . وكما أنها الآلهة – قد قضت بالحياة للإنسان فأنها قد قدرت عليه الموت أيضا . وقد آمن سكان وادي الرافدين بمصيرهم المأساوي هذا – أي الموت – واعتبروا الموت أمراً حتمياً وقانوناً طبيعياً وضعته الآلهة لهم عندما أوجدتهم ، فقد قيل بان الآلهة وحدها خالدة ، أما الإنسان فموته أمر لا مهرب منه ويستوجب الرضا : "وحدها الآلهة تعيش أبداً تحت الشمس ،وأما الإنسان فأيامه معدودة أو مهما صنع فما هو ألا ريح تهب"(1) .
      كما يمكننا أن نتلمس هذه الحقيقة – أي قدرية الموت – في التعابير التي كان البابليون يستخدمونها عندما يتحدثون عن موت أحد ما فيقولون (ذهب إلى المصير) ، أو ضمه إلهه(او أخذه اليه) ، وقد تعددت الإشارات في أدب بلاد وادي الرافدين إلى حتمية الموت ويذكر منها ما ورد في ملحمة كلكامش ضمن حديث طويل على لسان اوتو – نبشتم جاء فيه:-

      "إن الموت قاسٍ لا يرحم ؟
      هل بنينا بيتا يقوم إلى الأيد ؟

      وهل ختمنا عقداً يدوم إلى الأبد ؟
      ثم يستطرد بقوله :-
      ولم يكن دوام وخلود منذ القدم"(2) .
      وقد حاول فيه اوتو – نبشتم أن يبرهن لـ "كلكامش" على حتمية الموت وانتفاء الخلود بمنطق هو المنطق الذي كان راسخاً في الفكر العراقي القديم بخصوص الموت والذي أُستنبط من واقع الحياة وحقيقة الموت ، هذا بالإضافة إلى إن الموت كان يُعّد من أقسى المحتمات على الإنسان(3) .
      لكن هذا لا يعني بان إنسان وادي الرافدين كان إنسان جبرياً ، تحكمه الأقدار من جميع النواحي ، فنظام القدر لديهم لم يكن شريعة تنظيم التفاصيل وعلى نطاق العالم كله ، بل كان يترك حيزاً كبيراً نسبياً إلى مبادرة الإنسان ومسئوليته ، ولهذا لا يظهر أبداً في الفكر البابلي صورة القدرية المطلقة ، فالإنسان كان يخضع لثلاثة أنواع من النفوذ أو السلطات ، فهو أولاً يخضع إلى قرارات القدر التي لا ترد والتي تحددها الآلهة والتي ترسم الخطوط العريضة للوجود ، وثانياً هو خاضع إلى وصاية الملك التي يفرضها على رعاياه ، وهذه الوصاية تضاف إلى الوصاية الإلهية وتكون تابعة لها ، وأخيراً فهناك القوى الشريرة المتوحشة السرية التي هي الشيطان ، وهي دؤوبة في رصد الإنسان وتستطيع التدخل في حياته (على هيئة مرض في الأكثر) وهذه السلطة ليست مرتبطة بالقدر ولكن معارضة لهم ، لذلك فمن خطأ الرأي الاعتقاد بان سكان وادي الرافدين كانوا مسحوقون تحت إرادة مطلقة لا راد لها(1) ، فهذا كلكامش يقرر بعد موت أنكيدو الرحيل إلى جدها اوتوـ نبشتم ليسأله عن الطريقة التي تمكنه من الحصول على (الحياة الأبدية) ، والتخلص من الموت حين يصحو فجأة على المأساة الحقيقة في حياة الإنسان ، ويهيم على وجهه في الصحاري والبراري مخلفاً العرش والمُلك وراءه باحثاً عن الخلود وأكسير(*) الحياة يدفع به قدر الإنسان الفاني ، فهو بالرغم من تكوين ثلثه الإلهي فان نسبة التركيب البشري يشده نحو المصير المشترك لجميع البشر(2) .
      بعبارة أخرى ، فان الموت كان يصيب حتى أولئك الملوك الذين حظوا بالتقديس والتأليه من قِبل رعاياهم وقد كُتبت أسماء اغلبهم مسبوقة بعلامة الألوهية (W ـilu : Dingier )(*) الخاصة بأسماء الآلهة في الكتابات القديمة(1) .
      بهذا فالحياة في وادي الرافدين تقطع كالقصبة ، وان الذي يحيا في المساء قد يموت في الصباح ، وبالرغم من أن قناعة العراقيين كانت تشير بأنه لا يمكن للإنسان أن يستمر في حياته الأرضية اكثر من الموعد الذي قدرته الآلهة فانهم كانوا على قناعة أيضا بان الإنسان قد يتعرض للموت قبل ذلك الموعد حيث وردت بعض الإشارات في النصوص القديمة أن بعض الناس ماتوا في وقت لم يكنْ يوم مصيرهم(2) .
      خلاصة القول أن الأقدار أو "..المصائر تمثل مزيداً من التأكيد على الوجود الإلهي في كل مكان وعلى سيادة النظام المقرر ، وكما قال مردوخ نفسه ، كانت مصائر بابل تُلزم مجمع الآلهة بان يعتبر ما يتعهد به غير قابل للتغير ، وان ما تنطق به شفتاه ثابت لا يتبدل"(3) ،وهذا يدل على بان الانسان مسير في الامور التي قدرتها الالهة له كالحياة والموت والنوم، لكنه مخير في الامور الاخرى كفعل الخير والشر .

    7. #7


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      ثانياً : الخــــلود

      رأينا كيف أن إنسان وادي الرافدين آمن بخلود الآلهة وفناء الإنسان وهناك العديد من النصوص السومرية والبابلية تؤكد على البون الشاسع بين الآلهة والبشر في الجوهر والمنزلة ، فأصل الآلهة يرجع إلى المياه الأزلية الأولى ابسو و تيامة بينما خُلق الإنسان وعلى يد الآلهة العظام من طين ممزوج بدم أحد الآلهة الذبيحة ، واهم من ذلك وذاك فان الآلهة احتفظت لنفسها بالخلود ، بينما جعلت الموت من نصيب البشر .
      إذن فلا مفر للإنسان من الموت فهو يلاحقه دائما حتى يقبض عليه في نهاية المطاف ، ولكنْ مع استسلام الإنسان لحتمية الموت في بلاد وادي الرافدين واعتقاده الراسخ بان الخلود للآلهة فقط ، فأننا نجد أن هناك تطلعات للنفس البشرية نحو الخلاص من شبح الموت(1) . وقد وجد ت العديد من الملاحم والأساطير والقصص قد تناولت هذه الأفكار ومنها ملحمة كلكامش و أسطورة ادابا ، فكلاهما يؤكدان على قدرية الموت وخسران الحياة الدائمة للبشر ، فوادي الرافدين قد أدرك منذ البدء بان الإنسان قد قُدر عليه الموت مع إمكانية تحقيق الخلود من خلال ما يقدمه من أعمال وبطولات تشهد على مدى قوته وعظمته وبهائه"(2) ، فهذا كلكامش(*) يذكرانكيدو(**) الذي أخافته المغامرة نحو غابات الأرز بقوله : لقد صرت تخشى ونحن ما زلنا هنا ، فماذا دهى قوة بطولتك ، ثم يقول له دعني إذن أتقدم قبلك وليناديني صوتك "تقدم ! ولا تخف ! وإذا ما هلكت فسأُخلد لي إسماً ، وسيقولون عني من بعد أن تولد الأجيال الآتية فيما بعد : لقد هلك كلكامش في نزاله مع خمبابا المارد"(1) . هكذا فقد كان إنسان وادي الرافدين ممثلاً بكلكامش يعتقد بأنه طالما كان قوياً فانه سيموت ميتة مشرفة ، تخلد اسمه كالسقوط في ساحات القتال . وهنا فالموت في نظر كلكامش لا يشكل أي خوف أو رعب "انه جزء من اللعبة والشهرة تلطف من حدته ، لان المرء يبقى حياً في الأجيال القادمة ، غيران أن كلكامش لم يعرف الموت عندئذ إلا كأمر مجرد ، ولم يكنْ قد مسه الموت مباشرة بحقيقته الرهيبة إلى أن يموت انكيدو ، فيُدرك ما لم يدركه من قبل(2) ، وهو أن الإنسان مهما بلغ من قوة وجبروت فانه سوف يلاقي حتفه عاجلاً أم آجلا(3) . وقد يحدث له في مكان بعيد عن ساحات الوغى والنزال فيموت دون أن يخلف وراءه اسماً سيخلده كـ" أنكيدو" الذي يقول لصديقه كلكامش وهو على فراش الموت"يا صاحبي لقد حلت بي اللعنة فلنْ أموت ميتة رجل سقط في ميدان الوغى كنت أخشى القتال (ولكنْ) من يسقط في القتال يا صديقي فانه مبارك أما أنا فسأموت ذليلاً حتف انفي"(4) . وهذا الذي أرعب كلكامش فلم يصدق أن صاحبه أنكيدو قد مات حقاً ، إذ كيف يمكن أن يموت وهو القوي الجبار الذي تحمل معه أعباء الأسفار ونازل معه خمبابا والثور السماوي ، الأمر الذي ولد في نفسية البطل كلكامش الارتباك والحيرة لأنه أدرك انه سيموت كصديقه وحيداً ، فراح يتساءل "هل يمكن أن يختفي هو مثلما اختفى صديقة المخلص انكيدو ؟ أم بوسعه تخطي المصير المرعب للبشر ؟ لنيل الخلود(1) . "…الذي كان يعني بالنسبة لـ" كلكامش" البقاء المادي في الحياة وعدم ملاقاة الموت وهي الرغبة التي لم تتفجر عنده إلا بعد موت انكيدو وتمثلت كرد فعل مباشر على تلك الحادثة.."(2) ، وهنا تبدأ رحلة الصراع بين إرادة الإنسان وبين قدرية الموت ولنْ توقفها كل الصعاب والآلام حيث نرى" كلكامش " بكل إصرار يفتش الأرض بحثاً عن علاج سحري ضد الموت..(3) . كما انه يتذكر جده اوتو – نبشتم الذي منحته الآلهة الخلود لإنقاذه نسل البشرية من الفناء ، ليسأله عن سرالحياة والموت ، حيث يرد في" ملحمة كلكامش" قول البطل "أتيت قاصداً أبي ، اوتو – نبشتم ، جئت لاسأله عن (لغز) الحياة والموت"(4) ورغم التحذيرات التي يحذرها له من يصادفه في طريقه إلا انه لا يعبأ لها حيث يجيب مُحذريه بقوله "عزمت على أن اذهب ولو بالحزن والآلام ، وفي البرد والحر وفي الحسرات والبكاء..، كما يقابل أيضا سيدوري(*) صاحبة الحانة التي كانت مُدركة لحقيقة الموت فنصحته أن يتمتع بمباهج الحياة وأخبرته عن عبث مسعاهُ ، إلا ان كلامها لم يؤثر فيه فيقول لها"..دليني كيف اتجه إليه ؟ فإذا امكنني الوصول إليه ، فأنني حتى البحار سأعبرها"(1) .
      لقد كان خوف كلكامش من الموت ورغبته بـ (الحياة الدائمة) أقوى من جميع النصائح التي نُصح بها أثناء رحلته الطويلة والتي توجها برؤية جده اوتو – نبشتم الذي فاجأته رؤيته إذ وجده ضعيف البُنية مضطجعاً على ظهره لا يتمتع بالقوة والبأس فقال له : لقد تصورك قلبي بطلاً على أهبة القتال ،فإذا بي أجدك تضطجع متكاسلاً على ظهرك ، اخبرني كيف استطعت الدخول إلى مجلس الآلهة بحثاً عن الحياة(2) . وهنا لم يزل كلكامش متصوراً بان الخلود هو للقوة العضلية الجسدية ، لذلك فهو يتحدى جده موضحاً له كيف تمكن من أن ينتصر على الموت ، لكنْ اوتو – نبشتم أجابه كما فعلت من قبل سيدوري حيث لا يوجد شيء دائم ، ولا بد للإنسان من أن يفنى عندما تقضي الآلهة بذلك(3) . لكنْ كلكامش لم يقنع بجميع هذه الأدلة النظرية،الأمر الذي يدفع اوتو– نبشتم إلى إخضاع كلكامش إلى اختبار عملي ليجعله يقنع بقدرية الموت ، من خلال (اختبار النوم) ، وقد كان الاختبار عسيراً والمطلوب منه أن يثبت استعداده ومقدرته على قهر الموت الأصغر وهو(النوم) ، فكان عليه أن يجلس في وضعية القعود ستة أيام وسبع ليال دون أن يطرق الكرى أجفانه وقد قبل كلكامش التحدي مصمماً على قهر الموت الأصغر وكسب الرهان والحصول على سر الخلود ، ولكن سرعان ما غلبه النعاس وغط في سبات عميق ، ولما استفاق وجد انه نام عدة أيام اشرتها زوجة اوتو– نبشتم على الجدار كما أحصتها عداً بأرغفة من خبز وضعتها عند رأسه وهو نائم ،وحين علم الحقيقة وتأكد من فشله في الاختبار اقتنع باستحالة الخلود المادي وقرر مغادرة الجزيرة ومعه أورشنابي الذي أمره سيده بمغادرة المكان دون رجعة ومرافقة كلكامش إلى مدينة أوروك(1) ،وأثناء رحيله – أي كلكامش– قال لجده "ماذا عساي يا اوتو– نبشتم ان افعل والى أين اوجه وجهي ؟ اجل إن المُفرق قد تمكن من جوارحي ،اجل في مضجعي يقيم الموت وأينما وضعت قدمي يربض الموت"(2) .
      هكذا لم يتمكن كلكامش من الحصول على هذا الخلود الذي يعد شذوذاً عن القانون الأزلي المحتم ، ورغم أن ثلثيه من مادة الآلهة ولم يعوزه إلا ثلث ليصير إلهاً(3) . لكن هل هذا يعني بان جميع جهود كلكامش تذهب دون مكافأة ،أليس بمقدور اوتو- بشتم بطريقة ما مساعدة كلكامش للحصول على وطره؟ نعم بالتأكيد فما عليه إلا ان يحصل على نبات شوكي معين ينمو في أعماق المياه الباطنية ، حيث مسكن الإله انكي- ايا ، ذلك النبات يحمل خصائص تجديد الشباب لمن يأكل منه إذا بلغ الشيخوخة ، فيقوم كلكامش بالغوص في القناة المائية التي تصل إلى الابسو– مجمع المياه السفلية العذبة – رابطا إلى قدميه حجراً ثقيلاً يشده بقوة إلى الأسفل ، وهناك رأى النبتة فاجتثها بعد أن أدمت أشواكها يديه(4) . غير أن حتى هذا الأمل الوحيد لـ"كلكامش" في التغلب على الموت يتلاشى بظهور الأفعى والتهامها للنبات على حين غفلة(5)،من جهة أخرى فان ملحمة كلكامش أكدت على أن الإنسان إذا تعذر عليه الخلود الجسدي بسبب الموت الذي لا مهرب منه ، فانه بالإمكان أن يخلد اسمه وتبقى ذكراه عن طريق أعماله ومآثره(6) .
      فالبطل الذي أصابه الفشل في بحثه عن الحياة الخالدة كان قد وجد طريقاً آخر للخلود ألا وهو العمل الإنساني ، فالذي يميز ملحمة كلكامش هو أن العمل الإنساني يعتبر فيها الجوهر الفعلي للإنسان ، وذلك ما جعل الفأس رمز العمل الإنساني ، مرادفاً للإنسان ذاته ، وبهذا المعنى كان "كلكامش" قد أدرك انه إنسان قبل كل شيء(1) . فهو أولا يقول لوالدته الآلهة ننسون في أوروك ذات الأسوار رأيت فأساً مطروحةً ، ثم يقول لها ثم وضعتها عند قدميك فجعلتها أنت نظيراً لي"(2) ، ولدى تفسير ننسون الحلم لابنها ، جعلت الفأس رمزاً لـ "انكيدو" فاصبح بذلك العمل الإنساني يمثل جوهر الإنسان وغاية وجوده ، وهو بالتالي رمزا للخلود يكافح الانسان جاهدا لنيله وتحقيق مبتغاه في بقاء ذكراه على مر العصور، وهذا يوضح إلى مدى بعيد اعتزاز كلكامش بعد عودته إلى أوروك بصحبة أور– شنابي الملاح ، بأعماله العمرانية في هذه المدينة حيث جاء قول كلكامش لـ"أور- شنابي" الملاح ، اعل يا أور-شناني وتمشى فوق أسوارأوروك وافحص قواعد أسوارها ، وانظر إلى آجر بنائها ، وتيقن أليس من الآجر المفخور.."(3) .
      بهذا فـ "كلكامش" يظل بطلا بالرغم من خيبة أمله . فتشاؤمية الملحمة..لا تعني مهادنة الضعف الإنساني بالطبع ، فالشرق القديم لم يعرف الإلحاد ، ولا حتى فلسفة الشك ، فانتصار الطبيعة على الإنسان في الملحمة تُطرح كانتصار للنظام الذي وضعته الآلهة ، ولكن الإنسان الذي يمثله كلكامش لم يستسلم لهذا الانتصار(4) ، بل يوجد طريقة أخرى جديدة هي طريقة العمل الإنساني ليخلد نفسه ، وقد كان هناك مثال آخر يشير إلى مدى تشبث العراقيين بخلود الذكر ما كتبه حمورابي في خاتمة مسلته المشهورة حيث جاء فيها "في أي – ساكيلا (المعبد) الذي احبه ليُذكر اسمي بالطيب إلى الأبد"(1) .

    8. #8


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      ولوأمعنا النظر في بعض الرؤى الفلسفية تجاه الحياة التي تنساب في فحوى ملحمة كلكامش مثلها كباقي الفكر العراقي القديم،لرأينا كيف ان هناك تجسيداً للمعاني والقيم التي تسعى الى توثيق الصلة والرباط ما بين الانسان وواقع الحياة،وتحقيق ارادة الحياة ونبضها من خلال تفعيل وجودية الانسان في المجتمع،ان هذه الرؤى انبثقت من نظرة استقرائية محللة لمظاهر الحياة وتناقضاتها،حتى الوصول ولو بصورة بسيطة الى نسبيتها في التأثير على الانسان وضرورتها بالنسبة اليه،وهذا ما نلمسه ايضاً في اغلب المدونات الادبية والتاريخية التي رفدنا به ادب العراق القديم.
      من الجدير بالذكر معرفة ان اغلب الفكر الانساني القديم هو وليد عوامل وظروف مختلة ،منها العوامل الطبيعية والبيئية والتي لها الاثر الاكبر في عامل الاستقرارالاجتماعي والنفسي وبالتالي الفكري او الاضطراب الذي يخلق حركة فكرية متمردة ومحللة، قد تنشأ معها بوادر لافكار متطورة،ولا ننسى ان الامكانيات الاقتصادية والمادية المتاحة في هذا البلد او ذاك،وبمساعدة الصدفة والحاجة التي تقود الى الابداع كل ذلك له الاثر في النمو والتطور الفكري.
      من هنا نرى ان جاز لنا القول ان النظرة الاستقرائية والحكيمة في نفس الوقت،التي عبرت عن حب الحياة والارتباط بها والتمسك بكل ما يسعد النفس لدى العراق القديم،،كانت مخاضاً للطبيعة المضطربة التي عاشتها حضارة وادي الرافدين من فيضانات ورياح سموم وواقع قاسي وارض مفتوحة من جميع الجهات اثرت بدورها على تشجيع الغزو السياسي والعسكري والفكري،مما ادى الى ظهور متناقضات الحياة وانتفاء الحقيقة المطلقة،قاد هذا الى خلق الصراع بين النظرة المادية والروحية،حيث الميل الى النظرة المادية للامور وتراجع التوق الروحي،ادى هذا الى تنامي الرغبة في تحقيق ما وجد الانسان له في الحياة وذلك في السعي بطلب السعادة والهناء لكل من عقله المتساءل وعاطفته الجياشة،والوصول الى تحقيق الخلود المعنوي ،كل ذلك لم يمنع من التواصل في الايمان بالمعتقد والسلطة الالهية،كونه ضرورة وجدانية لم تختفي من روحية العراقي القديم،لكنها مساقة بالحكمة والتحليل لتصب فوائدها في واقع الحياة.
      لم نعتمد في منهجية البحث على اسلوب المقارنة بين فلسفة الحضارات القديمة والفلسفات المتأخرة،من حيث التأثير المباشر وغير المباشر لما يتطلبه من بحث دقيق ومساحة كبيرة نفتقدها،لكن من خلال اطلاعنا على بعض البحوث،نقرأ في احدها ايضاح التأثيرات والمقارنة ما بين سفر فوهلت من التوراة ورباعيات الخيام،حول بعض الرؤى الفلسفية تجاه الحياة والموت وما بعد الموت ومعانيهم بالنسبة للانسان،عز علينا ان لا يكون لاسم حضارة وادي الرافدين المكانة والدور المهم في هذا البحث واغفاله من قبل الباحث وهذا مما يؤسف عليه،لما ورد فيه من مفاهيم ورؤى فلسفية كانت من المفاهيم الرئيسية في حضارة وادي الرافدين،اذ علينا ان لا ننسى مكانتها في التأثير المباشر على الفلسفات اللاحقة وبالاخص ما تركته من آثار واضحة في النظرة اليهودية وهذا ما تتناوله الكثير من البحوث الآثارية والتأريخية،لما كان للصلة الوثيقة ما بين الشعب اليهودي والمجتمع العراقي القديم،فالسبي البابلي لليهود كان فرصة ثمينة لحكماء اليهود للنهل من ادب وفكرالحضارة العراقية.من المفاهيم التي تطرق اليها البحث بعد الاشارة الى الاضطراب السياسي والاجتماعي والفوضى التي سادت عصرسفرفوهلت(سفر الجامعة)(1)
      _ من دون الأشارة الى تاثير هذه الفوضى على المفاهيم المتولدة_ ابرزها هو الايمان بالتشابه والمساواة ما بين الملك والشحاذ في الموت،وان سعادة الانسان ان يكون حكيماً،اضافة الى التمتع والاستفادة من خيرات الحياة وملذاتها،وما الموت الا نهاية للحياة ولا بعث للحياة بعد الموت(1).هذه المفاهيم نراها بصورة واضحة في الفكر العراقي القديم،فان الامتدادات الحضارية والفكرية لحضارة وادي الرافدين اكبر من تختفي او تزول ولا تترك بصماتها الواضحة في الفلسفات اللاحقة.
      هناك أسطورة ثانية تشير إلى قدرية الموت واستحالة الخلود وهي أسطورة أدابا(*) وفيها أن الإنسان يصبح قاب قوسين أو أدنى من الخلود عندما يقدم اله السماء ماء الحياة وطعام الحياة(2) ، ويتم رفضه من قِبل الإنسان فيفقد بذلك فرصته في الحياة الأبدية للمرة الثانية ، فالأسطورة تتناول أحداثاً ذات طابع تـأملي وانساني تميز المعاني و القيم التي نشأ الانسان عليها منذ القدم كالطاعة والخضوع للاوامر الالهية دون التفكير بمعارضتها وهذا ما نراه في اسطورة آدابا ـ Adapa وهو رجل تقي خسر الخلود وفقده بسبب غلطة(3) ، إذ خصه إله الحكمة انكي- أيا بالسلطة وسعة المعرفة إلا انه لم يوهب الخلود الذي انفردت به الآلهة وحدها(4) . لقد كان آدابا يمتهن صيد السمك في مركبه ، فكان يزود أريدو ومعبدها بالسمك،واشتهر بحذقه في الملاحة والصيد في البحر،وحدث ذات مرة أن الريح الجنوبية(1) ، والتي تصورها الإنسان آنذاك على هيئة طائر شيطاني وهناك تمثال له في متحف اللوفر وهو واقف على رجليه المنتهيتين بما يشبه أظافر النسر ، أما جسمه النحيف القوي فهو جسم حيوان ، وعلى كتفيه جناحان كبيران ، ووجهه بارز العظام دميم المنظر تعلوه جبهة فيها قرنان ولا ينفك فمه عن إصدار زئير مرعب(2) ، إذ قامت بإغراق سفينة آدابا وهو يصطاد السمك فغضب لذلك ولعنها على ما فعلت ، فانكسر أحد جناحيها ولم تستطع الهبوب مرة أخرى(3)، ولما كان لهذه الريح من أهمية في اقتصاديات جنوب العراق حيث تجلب كل مطر العراق الضئيل الضروري للزراعة في الشتاء وتساعد على نضوج البلح في الصيف ، فقد اثارعمله غضب الإله العظيم انو(4) فاستدعاه لمحاكمته على كسر جناح الريح الجنوبية وهنا "…ينصح ايا – إنكي وهو اله مدينة أريدو آدابا بأن لا يتناول من أي طعام أو شراب يقدم إليه من اله السماء ، إذ ان ايا يعرف بان طعام الآلهة يشتهر بالخلود ، لذلك مُنع بهذا ادابا من الحصول على الخلود.."(5)، لان آدابا حين حضر بين يدي الإله انو ورد على تساؤلاته بكل ثقة وصدق سبب ذلك إعجاب الإله فيقرر منحه ماء وطعام الحياة ، غير ان آدابا يرفضهما اعتماداً على نصيحة حاميه الإله ايا فيخسر بذلك الخلود هو وذريته من بعده . وهذه الأسطورة يدور حولها نقاش طويل عن معناها العميق "…الذي يثير معضلات خطيرة في الفلسفة الدينية . فان تصرف الإلهين آنو و ايا نحو آدابا لا يخلو من المفاجأة ، فهل كان أيا صادقاً حينما نصح مريده بان يكون حذراً من عطايا انو ؟ وهل كان من جراء جهل غريب أو حكمة عميقة انه منع آدابا من انتهاز الفرصة التي قدمت له ليصبح خالداً ؟ وقد رأى فيها البعض لعنة عاقب بها انو جسارة ادابا ويبدوانه من الأفضل أن تصور بوصفها برهانا جديداً على عدالة انو ، فقد حكم إن ادابا يستحق الخلود ، لكونه إمتلك من المعاني والقيم والحكمة ما تجعله ان يكون في مقام الخالدين(1) . فهو ".. شبيه بـ"كلكامش" حيث انه فقد الخلود بواسطة تخطيط الآلهة ، لكنه لم يفقد مكانته الحقيقية بين الناس لحكمته وعمله الصالح الذي كان السبب في دوام ذكراه وهذا ما لمسناه في الملحمة السابقة ، وعلى ما يبدو ان انو(اله السماء) قد كافأ آدابا حيث منحه هو وأعوانه مستحضرات الأرواح الشريرة التي هي عبارة عن قوى سحرية خاصة تستخدم لمحاربة العفاريت والأمراض"(2) ، والتي تأتي بها ريح الجنوب (السموم) على البشر ، وهكذا يخسرآدابا فرصة الخلود "…بسبب طاعته العمياء…"(3) ، فيحرم البشر من الخلود ،وقد حددت عدة أسباب لفقدان الخلود منها :-

      الخطيئة و المعصية .الضعف الإنساني . 3- الطقس الادخالي(الجنسي) .

    9. #9


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      السبب الأول : الخطيئة والتي"…نجدها في الأسطورة البابلية المعروفة باسم أسطورة آدابا فهو برفضه غذاء الحياة الذي قدمه له آنو حكم عليه بالفناء.."(4) . لقد عصى ادابا كبيرالآلهة واعظهم وهو آنو عندما رفض تناول طعام وماء الحياة وعقاباً له على خطيئته ، فقد اصدر آنو أمره بان يعاد ادابا من السماء إلى الأرض ، كما أن الإنسان كان ضحية للخديعة دفعته إلى عصيان أمر الإله ، فبنصيحة ايا المطولة التي أسداها إلى آدابا كان السبب المباشر في حمل الأخير على عصيان أوامر اله السماء برفضه طعام وماء الحياة(1).
      السبب الثاني: تمثل بالوهن والارهاق الذي اصاب كلكامش مما ترك فرصة الى سرقة نبات الحياة من قِبل الحية التي "…سلبت الإنسان حظه في حياة خالدة…"(2) فـ"كلكامش" العائد من سفره المرهق وبيده نبتة الحياة التي تعيد الشيخ شاباً قد فقدها على حين غفلة وهو يغتسل في بركة ماء ، حين شمت عبيرها الأفعى ، فجاءت وسرقتها منه ، وحرمته من الشباب الدائم وانتهت رحلته التي طاف خلالها أرجاء العالم إلى لا شيء .
      السبب الثالث : هو "تدخل الطقس الادخالي (Initiation ) للفعل الجنسي"(3) . فالإنسان يموت بسبب المرأة التي أغوته وهذا ما يتفق مع انكيدو فهو مات لان مومس أوروك نقلته إلى الحياة المتمدنة وأغرته بترك الحياة الحرة التي عاشها في الغابة ، مع الحيوانات المتوحشة..(4)، إذ كان"..يعتقد انه لولاها لاستمر بالعيش حياة بسيطة مع الحيوانات المفترسة ، ولما كان عرف الذنوب التي اقترفها حين جاء إلى أوروك حين اصبح صديق كلكامش.."(5) .
      إضافة الى ذلك نقول بان الآلهة لم ترغب في جعل الإنسان خالداً "..ذلك لان الخلود يجعل الإنسان مساوياً للآلهة.."(6) ، وإنها بذلك
      سوف تفقد امتيازاتها وستخسر ما يقدمه البشر لها من قرابين واحترام وطاعة .

    10. #10


      أديب
      الصورة الرمزية مصطفى الصالح
      تاريخ التسجيل
      May 2020
       الحالة : مصطفى الصالح غير متواجد حالياً
      الإقامة
      في الغربة
       البلد : فلسطين
        العمل : مهندس ومترجم
       هواياتي : القراءة والكتابة والترجمة
       التقييم : 603
      عدد المواضيع :
      المشاركات
      5,343
      بمعدل يومياً
      مقالات المدونة
      6
      معدل تقييم المستوى
      10
      ثالثاً : ماهية الحياة ما بعد الموت

      إن "…الحياة الأخرى لم تكنْ معروفة لدى السومريين ، وحالة الموت هي حالة أبدية يدخلها كل البشر بصرف النظر عما قدمت أيديهم في الحياة الدنيا.."(1) . كما إن أفكار البابليين عن الحياة والموت كانت غير متضمنة لأي تصورات أو اعتقادات عن الآخرة ، فبعد الموت لا مجال للحديث عن سعادة مطلقة وفاضلةـ بعبارة أخرىـ فان سكان وادي الرافدين الذين لم يعتقدوا بحياة أُخرى يمضي إليها الإنسان ، و يعتبرون الأقدار قد حددت مصائرهم سلفاً ، لا يرون أي هدف يسعون إليه لما بعدهذه الحياة(2) . وهذا أدى إلى القول بان "… مصير الصالحين والطالحين كان مشوشاً ، لان فكرة الثواب والعقاب لم تتدخل مع فكرة الدفن"(3) . وبعبارة أخرى فان"…قدماء وادي الرافدين لم يفكروا في العالم الثاني الذي فيه جنة وجهنم وثواب وعقاب بل اعتقدوا أن الثواب والعقاب يكونان في الحياة الدنيا"(4) . وقد أشار إلى هذا الأمركونتينو بقوله "ليس هناك أية إشارة واضحة إلى فكرة الحساب بعدالموت وانه على الرغم من قدرة آلهة العالم السفلي على الحساب إلا ان هذا لا يشمل إلا الأحياء ، أي انه كان بإمكان الآلهة أن يجعلوا أيام الأحياء علىالأرض قصيرة ، وان يصيبوهم بالمرض(5) ، وبهذا فان إنسان وادي الرافدين لم يكن "..له خلاص يستعد له وليس هناك ما يسمى ثواب الإنسان.."(1) . وإذ نذهب إلى انتفاء وجود حساب للموتى في عالم الأموات وبالتالي انتفاء وجود عقاب وثواب في ذلك العالم فلابد لنا من أن نوضح الكيفية التي كان سكان وادي الرافدين يتوقعون فيها أن يتحمل المرء عواقب أعماله سيئها وخيرها ، وهذا قد أدى إلى ظهور مفهوم الخطيئة والحسنة ذاتهما في حضارة وادي الرافدين.



      1- حياة الطاعة والثواب
      لقد اصبح من المعلوم بان "عالم الأحياء هو دار الثواب وليس عالم الأموات وفق عقائد حضارة وادي الرافدين القديمة عن الحياة الأخرى .. وان العالم الآخر ليس إلا مكاناً لإقامة الموتى الدائم بشكل متساوٍ بين الأخيار والأشرار.."(2) . الأمر الذي أدى إلى تشبث سكان وادي الرافدين بالحياة واعتبارها الخير الأسمى والغاية القصوى مما دفعهم إلى التضرع للآلهة وإطاعة أوامرها لإطالة حياتهم الأرضية ،وهذه الحياة قد اعتبرها الإنسان قديماً منّة تمنحه إياها الآلهة التي خلقته فقد جاء القول بان "… الكائن البشري المصنوع من الصلصال لم يخلق إلا لخدمة الآلهة ، وذلك بتزويدها بكل ما هو نافع لها حتى يستطيع العيش بسلام ، فالإنسان هو العبد وخادم الآلهة"(3) . وهكذا فقد كان "… السومريون والبابليون والآشوريون يتطلعون نحو آلهتهم ، مثل تطلع الخدم نحو أسيادهم المحسنين بخشوع وخضوع وبحب وإعجاب أيضا ، فكانت من اعظم الخصال التي يجب أن يتصف الملوك وعامة الناس هي إطاعة الإرادة الإلهية ، لان خدمة الآلهة كانت تعتبر إحدى الواجبات المقدسة"(1) .
      وكان الملوك يتباهون "… بأنهم يوفون بهذا الالتزام ، وتوقع أشد عقوبات الانتقام إذا تبين إن المرء لا يخاف الآلهة ، حمورابي يخاف الآلهة و نبوخذ نصر الثاني ، من كل قلبه الوفي يحب مخافة آلهته ويخاف من هيمنتها ، و نبونيد ملك بابل الذي يفيض قلبه بالمخافة يحفظ كلام الآلهة.. "(2) ولقد امتلكت آلهة وادي الرافدين سلطة لا يجوز على الإنسان أن يتجاوزها ابتداءً من اصغر الآلهة إلى أكبرها - أي من الإله الشخصي إلى اله الكون والدليل على ذلك الصلاة التي يتقدم بها رب الأسرة بالإضافة إلى القرابين التي يتزلف به ناصحاً بقوله "على الإنسان أن يسبح بعظمة إلههِ ، وعلى الشاب أن يطيع بكل جوارحه أمر إلهه "(3) .
      ان الطاعة ببعدها العميق هذا لم تكنْ لتتم اعتباطاً ، وأنما كانت تحكمها بلا أدنى شك ، بعض المبررات منها "…إن الطاعة كانت تمثل النتيجة الملازمة للمنطق الذي كان يسود وادي الرافدين .. ويمكن أن نعتبر مثل هذا المنطق منطقاً نفعياً ، فطاعة الإنسان العادي إزاء إلههِ الشخصي تقوم على أساس هذا المنطق.."(4) ، فهو "… قد خُلق ليكون عبداً للآلهة ، انه خادمهم المجتهد المطيع الذي يلجأ إلى سيده في طلب الحماية ، كما ان عليه في حالة الاجتهاد أن يتوقع الترقية والمكافأة من سيده "(5) . "… وكمكأفاة للأيمان الصادق وللسلوك القويم ، تقدم الآلهة للإنسان المساعدة والحماية ساعة الخطر و تجبر خاطره و تهبه الصحة الموفورة والمركز الاجتماعي المشرف والثروة والأبناء الكثيرين والسعادة والعمر الطويل.
      وهناك رسالة تؤكد على الطابع النفعي "… يرفعها إنسان عادي إلى إلهه الشخصي ، ويبدو أن هذا الإنسان كان يشكو من المرض ، وانه كان زعلانا على إلهه لاعتقاده أن هذا كان قد أهمله فتركه في حالة من المرض وفي الرسالة يؤكد هذا الإنسان استعداده للمثول بين يدي إلهه الشخصي وتقديم فروض الطاعة إذ ما استجاب هذا الإله لطلبه وأشفاه من مرضه … إن طاعة الإنسان العادي إزاء إلهه الشخصي كانت قائمة على أساس من اعتقاده إن هذا الأخير يستطيع أن يحقق له نفعاً . أي ان يحصل له على العدالة الإلهية باستعمال نفوذه لدى الآلهة الكبار ، كذلك الحال بالنسبة لطاعة الملك إزاء الآلهة ، فهي الأخرى كانت تقوم على أساس من مقابل . لقد كان العاهل اسرحدون يتوجه بهذه الصلاة إلى الآلهة " لينظر إلى مردوك وطربانيتوم بعين الرضا ، ليباركا في أعماق قلبيهما ملوكيتي ، كما انه قد أشير إلى أن الملك كان يصاحب تقديمه للضحايا صلاة يطالب فيها ، بالمقابل الحصول على الحظوة الإلهية …"(1) . كما جاء في تضرعات أحد الأمراء القول "نحو تضرعاتي التقية ، فلتنظر آلهتي برفق وحنو ، ولتمنحني عهداً أنال فيه الطاعة ، ولتكنْ السنوات التي تهبها لي مفرحة للقلب"(2) كما يقول "… الملك لوكال زاجيزي (2400-2370 ق.م) في كتابة منقوشة على أناء نذري ،بأنه قدم من اجل حياته آنية متعددة لـ "انليل" ملكه المحبوب … عسى انليل ملك جميع الأقطار أن يصلي من اجلي أمام آن وعسى أن يضيف حياة إلى حياتي ، بالإضافة إلى ملوك آخرين كـ "اور – نمو" مؤسس سلالة اورالثالثة(2112-2095 ق.م) وانتيمينا أمير لكش من عصر فجرالسلالات"(1). وبهذا نجد إن الطاعة التي كانت تقدم على مستوى دوائر السلطة الإلهية المختلفة من قبل انسان حضارة وادي الرافدين كان يحكمها في وجودها مبرر أساسي هو المقابل الذي يتم الحصول عليه نظير الطاعة التي تقدم لها..(2) .
      بعد ذلك كله نستطيع القول بان السومريين والبابليين كانوا قانعين بهذا النوع من الحياة المطيعة …لأنهم كانوا أناساً عمليين ، متواضعين يحبون الحياة ويستمتعون بها فوق كل شيء ، وكانت اعز أحلامهم العيش مخلدين إلى الأبد

    صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Loading...

    توقيت مكة المكرمة

     

    sitemap