الأدب و الأديب
.................................................. ...
فإذا قيلَ الأدب ...
إذا اعتبرت الخيالَ في الذّكاء الإنساني وأوليتَه دقَّة النظر وحُسنَ التمييز لم تجده في الحقيقة إلا تقليداً من النفس للألوهيَّة بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصوُّر والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق.
وهذه النفس البشريةُ الآتيةُ من المجهول في أول حياتها، والراجعةُ إليه آخر حياتها، لا يمكن أن يتقررَ في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوده، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي، بل لا تزال تضرب ظنها وتصرِّف وهمها في كل ما تراه أو يتَلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمَّح في كل وجود غيباً، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأباً على مجاريها الخيالية التي تُوثق صلتها بالمجهول، وها هنا موضعُ الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية.
وإذا قيل الأدب؛ فاعلم أنه لا بد معه من البيان؛ فإن البيان صناعة الجمال في شيءٍ جمالُه هو من فائدته، وفائدته من جماله، فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد باباً من الاستعمال بعد أن كان باباً من التأثير، لهذا كان الأصل في الأدب البيانَ والأسلوبَ في جميع لغات الفكر الإنساني، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية.
فالغرضُ الأول للأدب أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يُلقِي الأسرارَ في الأمور المكشوفة بما يتخيَّل فيها، ويترك الماضي منها ثابتاً قارّاً بما يخلّد من وصفه، ويجعلَ المؤلم منها لذاً خفيفاً بما يَبُثُ فيه من العاطفة، والملول ممتعاً حلواً بما يكشف فيه من الجمال والحكمة، ومدارُ ذلك كلِّه على إيتاء النفس لذة المجهول، فإن هذه النفس طُلَعةٌ متقلبة، لا تبتغي مجهولاً صرفاً ولا معلوماً صرفاً، وإنما تبتغي حالة ملائكة بين هذين؛ يثور فيها قلقٌ أو يسكن منها قلق.
وأشواقُ النفس هي مادَّة الأدب؛ فليس يكون أدباً إلا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متَّصلاً بسرِّ هذه الحياة فيكشف عنه أو يومئُ إليه من قريب، أو غيَّر للنفس هذه الحياة تغييراً يجيء طباقاً لغرضها وأشواقها، ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثاً، إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مُسدَّدة أو انعكست حائلة.
وقد صحَّ أن النفس لا تتحقَّق من حريتها إلا في ساعات وفترات تنسلُّ فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى( منطقة حياد ) خارجة وراء الزمان والمكان، فإذا هبطتها النفس فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد، وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة؛ حبيب فاتنٍ معشوقٍ أُعطيَ قوة سحر النفس فهي تُنسى به، وصديقٍ محبوب وفيٍّ أوتيَ قوة جذب النفس فهي تنسى عنده، وقطعةٍ أدبية آخذةً فهي ساحرةٌ كالحبيب أو جاذبةٌ كالصديق، ومنظرٍ فنيٍّ رائع ففيه من كل شيء شيء.
وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول أو تقصر لاتصالها هنيهةً بالروح الأزليِّ في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية، ومن ثم نستطيع أن نقرّر أن أساس الفن هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه.
ثم إن الاتساق والخيرَ والحقَّ والجمال أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات، فمن ذلك يأتي الشاعرُ والأديب وذو الفن فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية عالمها، وهو عالمٌ أركانه الاتساقُ في المعاني التي يجري فيها، والجمال في التعبير الذي يتأدَّى به، والحق في الفكر الذي يقوم عليه، والخير في الغرض الذي يُساق له.
( من كتاب من وحي القلم/مصطفى صادق الرافعي )
...........
تم النقل بإيجاز لإلقاء الضوء على أهم ما جاء به هذا البحث القيِّم