النص
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاروق طه الموسى
بمزيدٍ من الرعب، تلقّى خبر قدوم العاصفة عبر رسائل الأمم المتّحدة .
لم ينس أن يؤمّن أشياءه الثمينة ..
أن يضع الأغراض الوازنة فوق سطح خيمته ..
أن يحفر القنوات حولها .. ولم ينس أرقام الهواتف المتعلّقة بالإنقاذ ..
بل زاد على ذلك أن أمّن المزيد من الحلول الدافئة لأطفاله، المزيد من الخبز، والمزيد من الحنان ..
احتاط لكل شيء هذه المرّة ..
ونسي أنّه مات في العاصفة الماضية ..!
القراءة
أحيانا يعتقد البعض أن الغموض والتلغيز من شروط نجاح الق ق ج؛ فيبدأ الكاتب بقصقصة نهايات الجمل بدعوى الاختزال، وحذف بدايات الجمل بدعوى التكثيف، وفي النهاية نحصل على نص مشوه؛ مبتور الصدر والعجز، يصعب فهمه والامساك برهانه من قبل العامة أو الخاصة، ولا تجد له قراءة منطقية تدعمها قرائن لفظية أو إرساءات نصية يمكن أن تتكئ عليها وتسند ظهرك إلى الخلف وتأخذ نفسا عميقا وتقول بقلب مطمئن: ها أنا حصلت على قراءة ما. وفي هذه الحالة لن ينفعه نخسة من كتف ناقد طيب ولا دفعة من صدر ناقد متمرس. أقول هذا تحديدا لأننا أمام نص نموذجي صراحة. نص يسلم نفسه بسهولة، لمن يريد، ليرضي بها ذائقة كل من له علاقة بالأدب. ألفاظ سهلة لكنها بليغة، جمل قصيرة موجزة لكنها تودي الغرض، جمل طويلة لكنك لا تحتاج إلى الركض خلفها فتنكب على وجه المعنى، باختصار:
- اللغة قوية (دالة) ناقلة للمعنى المراد توصيله ببساطة حد البلاغة.
- السرد ساحر بموسيقاه الداخلية التي تنبع من اختيار الألفاظ بدقة وترتيبها بعناية داخل الجملة الواحدة فبات من يقرأها يسمع رنين الحرف وجمال الإيقاع.
- الراوي التزم الحياد الكامل واكتفي بنقل الحدث بمهارة فائقة، دون اسهاب أو تكرار.
- القفلة كانت مدوية لم يؤسس لها الكاتب أو يشير، ولا يوجد من الألفاظ ما يدلل على أنه يمكن استنباطها على مدار النص.
- العنوان يوحي بأن هناك ما هو مسكوت عنه، أو أن هناك ما لا يدركه الآخرون، ولا يشي بالفكرة الرئيسية للنص.
حقيقة، النص مليء بالحكي، عامر بالمفاتيح التي تقودك بسلاسة نحو القضية التي يناقشها الكاتب فنجد أن، وهذا ما اتبعته في مرحلة تفكيكي للنص:
- الجملة الأولى: بمزيدٍ من الرعب، تلقّى خبر قدوم العاصفة عبر رسائل الأمم المتّحدة .
اعتمدت فيها على ما استخدمه مبدعنا من تقديم شبه الجملة (بمزيد من الرعب)، ومن تجاور هذه الألفاظ /الرعب/العاصفة/رسائل/ للوصول إلى معنى اختاره الكاتب كبداية لنصه.
- الجملة الثانية: لم ينس أن يؤمّن أشياءه الثمينة
هنا نجد مفردتين رائعتين /يؤمن/ثمينة/ يؤسسان لمعنى مهد له الكاتب في جملة البداية وهو ما ينبغي عمله عند سماع خبر عاصفة، والأشياء الثمينة هي أول ما يتبادر في ذهن كثير من الأشخاص عند سماع أخبار العواصف والزلازل.
- الجملة الثالثة: أن يضع الأغراض الوازنة فوق سطح خيمته
هنا نجد /وازنة/سطح/ حيث كان لتجاورهما أهمية كبيرة في الوصول بالجملة إلى حيث يؤسس كاتبنا، فالخيمة يلزمها أوزان حتى لا تطيخ بها العاصفة بعيدا.
- الجملة الرابعة: أن يحفر القنوات حولها .. ولم ينس أرقام الهواتف المتعلّقة بالإنقاذ
وفي مرحلة تأمينه كان عليه أن يقوم بأعمال أخرى مثلتها الألفاظ /يحفر/أرقام/إنقاذ/
- الجملة الخامسة: بل زاد على ذلك أن أمّن المزيد من الحلول الدافئة لأطفاله، المزيد من الخبز، والمزيد من الحنان
جملة عامرة بالمفاتيح مليئة بالألم /أمن/حلول/أطفال/خبز/حنان/
- الجملة السادسة: احتاط لكل شيء هذه المرّة
هذه الجملة، في رأيي، هي عصب الحكاية، و(كل شيء) و(هذه المرة) قد تكون دلالاتهما واضحة للجميع.
- الجملة الأخيرة،: ونسي أنّه مات في العاصفة الماضية!
/مات/عاصفة ماضية/
جملة القفلة الرائعة وتحمل ما تحمل من معنى، وبها ما بها من ألم.
وأخيرا نجد أن النص من النصوص الفارقة قام بهندستها خبير في فن السرد، يعرف كيف يستدرج المتلقي إلى هدف واضح ومحدد، وليس هذا غريبا على فاروق طه الموسى؛ فأنا أفتخر دائما بأن هذا الرجل أحد أصدقائي بل أحد أساتذتي القدامى.
استمتعت هنا بجمال الحكي ومهارة وأسلوب السرد
ودي وتقديري صديقي وأخي الكريم فاروق
وعيدكم مبارك