بداية تجد أن المتعة، كل المتعة، عندما تقرأ نصا وتشعر أن هناك ما هو مخفي بمهارة بين السطور، وما يُخفى بمهارة يُفهم دائما بعمق.
النص الذي أمامنا يحمل بين طياته الكثير من التفاصيل والأسئلة المشروعة التي تحيلنا إليها العبارات والجمل التي استخدمها الكاتب بمهارة معتمدا على الإيحاء ومستعينا بأسلوب التناص مع القصة الشهيرة ليوسف الصديق للتدليل على واقعة أراد الكاتب رصدها.
العنوان: "قميص" بمعناه اللغوي هو الثوب، هو الجلباب، وهو غلاف القلب، والجمع أقمصة وقمصان. وهو كل ما يستخدم لستر عورة وللحماية من الخر والبرد. أما القميص بمعناه الإحالي والدلالي فيحيلنا مباشرة إلى أشهر قميص في تاريخ البشرية "قميص يوسف"، والذي ذكر في القرآن الكريم ست مرات ولم يذكر إلا مرتبطا بقصة نبي الله يوسف، فنجد:
1- "وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً..."
2- "وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ...."
3- "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ..."
4- "وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ..."
5- "فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ..."
6- "اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً..."
فكانت الأولى للدلالة على المكر والخداع، وكبرهان على أن يوسف قد قتله الذئب، وكان هذا في فلسطين، والثانية عندما راودته التي هو في بيتها فكان قميصه شاهدا، والثالثة للتدليل على الصدق، والرابعة للتدليل على الكذب، والخامسة للتدليل على براءة يوسف، فكان قميصه دليلا وبرهانا وشاهدا، وكان هذا في مصر. أما في الخامسة فيعود القميص إلى فلسطين ليكون علاجا وشفاء. أما في النص فكان القميص للدلالة على المكر والخداع وستر الحقيقة.
بداية نحن أمام مؤامرة دبرها جماعة يمثلها في النص واو الجماعة الملحقة بمجموعة من الأفعال (أدخلوه – بدأوا – ارتجفوا – ارتبكوا – ألبسوه – لفقوا)، أما الضحية فكان "ابن العاشرة" وتمثل حضوره في ضمير الغائب الملحق بالأفعال (أدخلوه – ألبسوه)
- ابن العاشرة...
أي ذنب قد جناه ابن العاشرة ليستحق بتر الأعضاء (كل الأعضاء)؟
- أدخلوه غرفة حالكة السواد
من المؤكد أن الأمر سيكون رهيبا بالنسبة لابن العاشرة، فهل المشهد سيكون مؤلما لهم؟
هل هناك ما يستدعي أن يدخلوه غرفة مظلمة؟ ربما كان الخوف من أن يفتضح أمرهم قد شغل تفكيرهم.
هل هم اخوة كما هو الحال في قصة سيدنا يوسف؟
- بدؤا ببتر رجولته المبكرة...
البتر هو القطع من الأصل، أو الحذف حتى لا يبقى ما يدل على وجوده. فكان أول ما كان منهم هو بتر رجولته حتى يصبح لا عقب له من الأولاد. لماذا؟ هل للفوز بإرث؟ هل للقضاء على أمل مقاومة قد يلوح في المستقبل؟
- صعودا إلى اليدين وانتهاءً بفقء العينين
لم يتوقف الأمر على بتر الرجولة فقط، بل تم بتر اليدين حتى لا يصبح له أي ردة فعل لها قيمة، ثم فقأوا العينين؛ وفقأ العينين مع غرفة حالكة السواد تحيلنا إلى ما هو أكبر من أنهم يريدونه كفيفا، هم لا يريدونه مبصرا، هم لا يريدونه أن يرى الحقيقة. والغرفة حالكة السواد وفقأ العينين يجعلني أجزم أنهم جميعا أخوة، أخوة دم أو نسب. فهل آلمتهم نظراته؟ ربما قتلتهم نظراته!
- سال الدم أحمر قانيا، ملأت رائحة المسك المكان
وبعد البتر والفقء كان القتل ليسيل دمه وتفوح رائحته ويصبح شهيدا
- ارتجفوا ... ارتبكوا ...
لم الرجفة والربكة؟ هل القتل ليس ديدنهم؟ هل العار سيلاحقهم؟
والغرفة حالكة السواد وفقء العينين مع الارتباك والرجفة تعيد لنا فكرة الأخوة إلى السطح مرة أخرى.
- وبسرعة البرق ألبسوه القميص ولفقوا التهمة للذئب!
وحتى لا يلاحقهم العار ويقع عليهم اللوم ألبسوه القميص ولفقوا التهمة للذئب والذئب من قتله براء.
النص عبارة عن مشهد وصفي تمثيلي قام فيه الشخصيات بتنفيذ مهمة (مؤامرة) للتخلص من شخص ما بعد التمثيل به، ثم إلصاق التهمة للذئب.
فنيا: اعتمد النص البنية سردية باستخدام الفعل الماضي، وهو فعل سردي بامتياز، وكانت الجمل بلا روابط عدا جملة القفلة سبقها (واو).
اللغة: لم يتعمد الكاتب الغموض بل اعتمد على الجمل الموحية التي تشير ولا تفضح وبذلك تجنب المباشرة.
الراوي: اعتمد كاتبنا الراوي المحايد ظاهريا، حيث قام بوصف الحدث كما هو دون أي تدخل منه، و(الغير محايد ضمنيا)، حيث يمكننا استنباط عدم حياديته من المجمل العام لمعنى للنص.
العنوان: هناك انسجام وتآلف واضح بين العنوان(قميص) وقفلة النص (وبسرعة البرق ألبسوه القميص ولفقوا التهمة للذئب!).
الحدث: مؤامرة.
الشخوص: (مجموعة من الأشخاص) مجهولي الهوية لكن يمكن استنباطهم ضمنيا، و/ضد (شخصية واحدة) ظهر جليا بوصفه (ابن العاشرة)
المكان: غرفة حالكة السواد.
الزمن: من الأرجح أنه كان نهارا وإلا لما احتاجوا لغرفة حالكة السواد.
القفلة: صادمة وغير متوقعة.
المفارقة: من يفترض أن يحميك هو من يخدعك، يضللك، ويقتلك، وقد يكون أقرب الناس إليك.
وأخيرا يمكن اسقاط النص على حالة قتل عادية قام بها بعض الأشخاص بالتخلص من طفل طمعا في إرث أو طلبا لثأر، كما يمكن إسقاطه على أمة بأكملها اغتالوا براءة شعب بعد أن فرطوا في القضية، وخوفا من افتضاح أمرهم قاموا بإخفاء الحقائق، وهذا ما أرجحه.
استمتعت هنا بمهارة الكتابة وفن السرد ولغة الحكي،
مع مبدع يمتلك أدواته جيدا ويعرف كيف يراوغ قارئه.
ودي وتقديري لك صديقي وأخي المبدع خالد يوسف
وكل عام وأنت بخير وعيدكم مبارك
http://afrahroh.com/vb/showthread.php?t=20&page=2