أسرار حضارة وادي النيل - التحنيط نموذجا ( بحث اولي )
الباحث الدكتور عبدالوهاب محمد الجبوري
المقدمة
حضارة قدماء المصريين' أو كما تسمى أحيانا حضارة وادي النيل هي حضارة نشأت على امتداد نهر النيل بشمال شرق أفريقيا منذ سنة3000 ق.م. إلى سنة30 ق.م. وهي أطول حضارة مكوثا بالعالم القديم مع الحضارة العراقية القديمة ، ويقصد بالحضارة المصرية القديمة من الناحية الجغرافية تلك الحضارة التي نبعت بالوادي ودلتا النيل حيث كان يعيش المصريون القدماء، ومن الناحية الثقافية تشير كلمة الحضارة للغتهم وعباداتهم وعاداتهم وتنظيمهم لحياتهم وإدارة شئونهم الحياتية والإدارية ومفهومهم للطبيعة من حولهم وتعاملهم مع الشعوب المجاورة ..
حضارة وادي النيل
ينبع نهر النيل ، الذي تدور حوله حضارة قدماء المصريين ، من فوق هضاب الحبشة بشرق أفريقيا ومنابع النيل بجنوب السودان متجها من السودان شمالا إلى مصر ليأتي الفيضان كل عام ويغذي التربة بالطمي ، وهذه الظاهرة الفيضانية الطبيعية جعلت إقتصاد مصر في تنام متجدد معتمدا أساسا على الزراعة ..
ومما ساعد على ظهور الحضارة أيضا خلو السماء من الغيوم وسطوع الشمس المشرقة تقريبا طوال العام لتمد المصريين القدماء بالدفء والضوء ، كما أن مصر محمية من الجيران بالصحراء من الغرب والبحر من الشمال والشرق ووجود الشلالات (الجنادل) جنوبا بالنوبة على النيل معا ، وهما الأهرامات بالجيزة وفنار الإسكندرية ..
وهذا الإستقرار الجغرافي أو المكاني جعل قدماء المصريين يبدعون في تكوين حضارتهم ومدنيتهم فوق أرضهم، فأوجدوا العلوم والآداب والتقاليد والعادات والكتابات والقصص والأساطير وتركوا من بعدهم تسجيلات جدارية ومخطوطات على البردي لتأصيل هذه الحضارة المبتكرة وشيدوا البنايات الضخمة كالأهرامات والمعابد والمقابر التي تحدت الزمن ، علاوة علي المخطوطات والرسومات والنقوشات والصور الملونة والتي مازالت اثارها باقية حتى اليوم ..
وكانوا يعالجون نبات البردي ليصنعوا منه اطماره الرقيقة وكتبوا عليها تاريخهم وعلومهم وعاداتهم وتقاليدهم لتكون رسالة لأحفادهم وللعالم أجمع، فكانوا يكتبون عليها باللغة الهيروغليفية ، وهي كتابة تصويرية فيها تعبر فيها الرموز عن صور معروفة، وابتدعوا مفاهيم في الحساب والهندسة ودرسوا الطب و طب الأسنان وعملوا لهم تقويما زمنيا حسب ملاحظاتهم للشمس والنجوم ..
ورغم أن قدماء المصريين كانوا يعبدون آلهة عديدة إلا أن دعوة التوحيد الإلهي ظهرت علي يد الملك إخناتون، كما أنهم أول من صـــــور وابتدع عقيدة الحياة الاخرى ، وهذه المفاهيم لم تكن موجودة لدي بقية الشعوب باستثناء العراقيين القدماء ، وبنوا المقابر المزينة والمزخرفة وقاموا بتأثيثها ليعيشوا بها عيشة أبدية ، حسب معتقداتهم ، وكان لمصر دور كبير في العالم القديم ، وكان تأثيرها السياسي في أحيان كثيرة يمتد لدول الجوار شرقا في آسيا وغربا إلى أفريقيا وجنوبا بالنوبة وبلاد بونت بالصومال ..
كان قدماء المصريين يطلقون علي أرضهم كيمت Kemet أي الأرض السوداء لأن النيل يمدها بالطمي وكان يطلق عليها أيضا ديشرت Deshret أي الأرض الحمراء إشارة للون رمال الصحراء التي تحترق تحت أشعة الشمس ، وكانت وفرة مياه الفيضان قد جعلهم يقيمون شبكة للري والزراعة وصنعوا القوارب للملاحة والنقل وصيد الأسماك من النهر، وأعطتهم الأرض المعادن والجواهر النفيسة كالذهب والفضة والنحاس ، وكانوا يتبادلون السلع مع دول الجوار ..
وتشير بعض مصادر المعلومات التاريخية والاثارية ان تاريخ مصر يبدأ منذ سنة 8000 ق.م في منطقة جنوب شرق مصر عند الحدود السودانية الشمالية الشرقية ، وقد جاءها قوم رعاة وكانت هذه المنطقة منطقة جذب حيث كان بها سهول حشائشية للرعي ومناخها مضياف وكان بها بحيرات من مياه الأمطارالموسمية ، وآثارهم تدل على أنهم كانوا مستوطنين هناك يرعون الماشية، وخلفوا من بعدهم بنايات ضخمة في حوالي العام 6000ق.م ، ونزح احفاد هؤلاء بعد 2000سنة إلى وادي النيل وأقاموا الحضارة المصرية القديمة ولاسيما بعدما أقفرت هذه المنطقة الرعوية وتغير مناخها ، واستقروا سنة 4000ق.م. بمصر العليا ولاسيما في نيخن القديمة ونجادة وأبيدوس ..
اما الزراعة فبدات في بلدة البداري منذ سنة5000 ق.م. وكان الفيوم مستوطنين يزرعون قبل البداري بألف سنة ، وكانت مدينة مرميد بالدلتا علي حدودها الغربية منذ سنة 4500ق.م. وفي مدينة بوتو ظهرت صناعة الفخار المزخرف الذي يختلف عن طراز الفخار في مصر العليا، وكان هناك إختلاف بين المصريين القدماء مابين مصر العليا ومصر الــسفلي في العقيدة وطريقة دفن الموتي والعمارة .. ثم جاء الملك مينا عام 3200ق.م. ووحد القطرين (مصر العليا ومصر السفلي)، وكان يضع علي رأسه تاجين ، الأبيض يرمز للوجه القبلي والأحمر للوجه البحري ، وجعل الملك مينا منف Memphis العاصمة الموحدة و كانت تقع غرب النيل عند الجيزة وأبيدوس المقبرة الملكية والتي إنتقلت لسقارة إبان عصر المملكة القديمة ..
أما التعليم والكتابة فكانا مستقلين في مصر القديمة وكانت الكتابة والقراءة محدودتين بين نسبة صغيرة من الصفوة الحاكمة أو الكتبة في الجهاز الإداري، وكان أبناء الأسرة الملكية والصفوة الحاكمة يتعلمون بالقصر، اما أبناء الشعب فكانوا يتعلمون في مدارس المعابد أو بالمنازل ، وكان تعليم البنات قاصرا علي الكتابة والقراءة بالبيت ، في حين كان المدرسون صارمين وكانوا يستعملون الضرب ، وكانت الكتب المدرسية تعلم القراءة والكتابة وكتابة الرسائل والنصوص الأخرى ..
وبالنسبة للمخطوطات فكانت تحفظ في بيت الحياة وهو دار الحفظ في كل معبد وهو أشبه بالمكتبة ، وكان المتعلمون في مصر القديمة يدرسون الحساب والهندسة والكسور والجمع والطب ، ووجدت كتب في الطب الباطني والجراحة والعلاج الصيدلى والبيطرة و طب الأسنان ، وكانت كل الكتب تستنسخ بما فيها كتب الأدب والنصوص الدينية ، ثم تطورت الهيروغليفية للهيراطقية ثم للديموطقية ثم للقبطية ، وكان لقدماء المصريين تقويمهم الزمني منذ مرحلة مبكرة وكان يعتمد فيه على ملاحظانهم للشمس والنجوم بالسماء ومواعيد فيضان النيل في كل عام ..
وكانوا يستعملون تقويمهم في تسجيل الأحداث التاريخية وجدولة أعيادهم وتأريخ القرارات الملكية ، وكانت أول محاولة لصنع تقويم عام 8000ق.م. عندما تم صنع الدوائر الحجرية في ركن بأقصي جنوب غربي مصر حاليا ، وكانت تستخدم لمراقبة النجوم وحركاتها، وقد قسم المصريون القدماء اليوم 24ساعة (12 نهارا و12 ليلا )والأسبوع 10 أيام والشهر 3 أسابيع أو 30 يوم والسنة 12 شهرا ، وكانت تقسم لثلاثة فصول كل فصل 4 شهور ، وكانت السنة تعادل 360 يوم ..
وكان قدماء المصريين يضيفون بعدها 5أيام ، كل يوم من هذه الأيام الخمسة تشير لعيد ميلاد إله خاص ، و بهذا تكون السنة الفرعونية كاملة 365 يوم ، وهي تقريبا تقارب السنة الشمسية حاليا ماعدا ربع يوم الفرق في كل سنة شمسية ولم يكن المصريون يعرفون إضافة يوم كل 4سنوات ..
بالاضافة لما تقدم فقد قام قدماء المصريين بالعديد من الأعمال الإبداعية المبتكرة والمذهلة للعالم سواء في التحنيط والموسيقى والنحت والأدب والرسم والعمارة والدراما ..
عدد السكان في مصر القديمة
كان عدد سكان مصر قبل عصر الأسرات( 5000ق.م. – 3000ق.م.) لا يتعدي مئات الالآف وأثناء المملكة القديمة (2575ق.م. –2134 ق.م.) بلغ عددهم 2مليون نسمة وإبان المملكة الوسطي (2040 ق.م. – 1640 ق.م.) زاد العدد وأثناء المملكة الحديثة (1550 ق.م. – 1070 ق.م.) بلغ العدد من 3 إلى 4 مليون نسمة ، وفي العصر الهيليني (332ق.م. - 30 ق.م.) بلغ العدد 7 مليون نسمة ، بعدها دخلت مصر العصر الروماني ، وكان المصريون يجاورون النهر، فأصبح مجتمعهم زراعيا وكانت منف وطيبة مركزين مهمين عندما أصبحت كل منهما عاصمة في زمانها ..