قراءةٌ في مَجمُوعةِ (المسلخ) القَصَصِيَّة
للقاص قصي المحمود\
لطيف عبد سالم
في مَجْمُوعَتِه القَصَصِيَّة البكر الموسومة (المسلخ)، يَلِـج الكاتب قصي المحمود - عبر (134) صفحة من القطع المتوسط - بوابة الواقع الاجتماعي، مسلطًا الضوء على مَجمُوعةٍ من الزوايا التي قد يكون بعضها غير ظاهرة للعيان. ولعلَّ أول ما يُلفت انتباه المتلقي في المَجمُوعة المذكورة، والتي صدرت طبعتها الأولى في أواخر عام 2020م عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد هو عتبة المَجمُوعة القَصَصِيَّة الأولى المتمثلة بالعنوان، إذ للوهلةِ الأولى يتبادر لذِّهْنِ القارئ أنَّ الكاتبَ يحاول أنْ ينقل المتلقين إلى فضاءاتٍ تعكس ما تحمله تلك المفردة من معانٍ تشير في المفهوم الدارج محليًا إلى ما يجري من فعالياتٍ في مسالخِ اللحوم الحمراء، أو مجازر الدواجن، إلا أنَّ التمعنَ في قصص المَجمُوعة، يُظهر معنىً آخر لتلك المفردة. ومن أجلِ تقريب دلالتها للمتلقي، يمكن القول إنَّ المحمودَ صاغها هُنا، وتحديدًا في قصةِ المسلخ - التي حملت المَجمُوعة اسمها - من وحي واقعةٍ تعرف عليها من حديثِ شخص قروي وطئت قدماه المدينة حديثًا، وأغواه صديقًا مدمنًا على التواجد في أماكنِ البغاء على مرافقته، فانبهر بما رأى، إلا أنَّ الحياءَ الذي ورثه من بيئته المحافظة منعه من أنْ يتفاعل مع ما يجري هناك من مسارات، فجاءت الكلمات معبرة عن أحاسيسٍ إنسانيَّة، فالمسلخ هُنا: "رغاء وتمتمة وجدران معتمة، أشلاء وأجساد تنهش فيها أفواه موبوءة استمرأت الجيف ولحم أبيض تكوم على أريكة كأنه جاء من مسلخ، قهقهة باهتة ودخان سكائر يخرج من الأفواه والأنوف ليرسم لوحة مبهمة وخيوطه الواهية تطوق الأعناق"... ص 66. وبدلًا من أنْ ينتهزَ القروي تلك الفرصة السانحة لاختبار فحولته، أحسَ بفقده الانتماء إلى البيئةِ التي تشعره بآدميته، فلم يتجاوب مع إيحاءاتِ وهمسات الجميلات، حتّى طلبت منه أحداهن مغادرة المكان، فكان أنْ خرجَ من المنزل وسط سخرية الحاضرات، وبقي ينتظر صاحبه تحت رذاذ مطر خفيف، وكأنه يطهر جسمه مما لحق به من أدرانِ ذاك المكان. يمكن القول إنَّ همومَ الإنسان وأحلامه، شكلت القاسم المشترك لقصص مجمُوعة المسلخ التي ضمَّت في ثناياها (24) قِصَّة قصيرة، إذ إنَّ قِصَّةَ (تصادم) التي افتتح بها المحمود مجمُوعته، تعكس أحد مظاهر الحياة الاجتماعية المعروفة في بلادنا، والمتجسدة بالصعوبات التي يؤججها أولاد الأم الأرملة وبناتها حيال رغبة زواجها بفعل العادات النابعة من الثقافة السائدة في المُجتمع. ولعلَّ التوتر الذي عاشته البنت في هذه القِصَّة، والدموع التي ذرفتها خير دليل على ترسخِ المتوارث من التقاليد الاجتماعيَّة. وينهي الكاتب قِصته بموافقة البنت على زواج والدتها؛ تعبيرًا عن رؤيته بعدم وجود مبرر يعطي للأولاد والبنات حقًا شرعيًا في إعاقةِ زواج والدتهم..."... حسمت أمرها ودخلت غرفتها وأغلقتها واطلقت لنفسها العنان في ثورة بكاء حادة لحد ما ثملت فيها، ذرفت الدمع ما لم تذرفه حتى يوم وفاته، أفرغت كل ما تختزنه من دموع، بعد أن هدأت أمسكت الهاتف الجوال واتصلت بزوجها لتخبره إنها ستذهب مبكرة لمساعدة والدتها في التحضير لعقد قرانها".... ص 10. معانة زوجة فقدت زوجها الطيار عند تكليفه بمهمة حربية، وما تخللها من مشاعرٍ جياشة رسمها الكاتب من وحيِّ خيالٍ صاخب، وحبكة ذكية، كانت موضوع قِصَّة (رائحة المطر) التي اجتهد المحمود في وضع نهاية لها معبرة عن العودة إلى ممارسةِ حياتها مُفعمة بروح الأمل والتفاؤل. وكنت أتمنى أنْ تحملَ المَجْمُوعَةُ القَصَصِيَّة اسم (رائحة المطر) بسبب جمال فكرتها وخيالها الخصب.".. عادت أدراجها وأدركت ما الذي اعتراها، ذهبت إلى دولاب ملابسها وأخرجت معطفها المطري، ارتدته ووضعت الرواية في رف الكتب المقروءة وخرجت ليبللها الرذاذ وتشم النسيم بنفس عميق معفرا برائحة المطر"..... ص 15. تتوالى قَصَصِ المَجْمُوعَة - في نسقٍ سردي يعرض صورًا مهمة من آلام الناس، ومحاكاة أوجاعهم، والبسيط من أحلامهم، فدور الأسرة في تربية الأبناء، وحضور الوعي لدى الأبوين، ونبذهم للمتجذر من التقاليد البالية، فضلًا عن أهمية تصميم الأبناء على مواصلة الجهد من أجل تحقيق مستقبل عيش كريم، ومنزلة علمية تؤهلهم لشغل عنوانات وظيفية محترمة، كان حاضرًا في قِصَّةِ (قهوة مرة). وإرهاصات الحياة كالعوز، المحبة، الوفاء، خيانة الأمانة والنبل تجسد في قِصَّةِ (رسالة نصية). وما حدث مصادفة في حديقة الحيوانات، وأعاد المحبين إلى ذكرياتٍ طواها الزمن جاء في قِصَّةِ (وميض)، والولادة في ظلِ تداعيات العمليات العسكرية، وما تخللها من مشاعرٍ في قِصَّةِ (دعاء). والتكافل الاجتماعي في قِصَّةِ (الحصاد). والهواجس التي تنتهي بمفاجئة مفرحة في قِصَّةِ (الهدية). والتذكير بذكرى يوم الزواج في قِصَّةِ (سحابة). وهكذا تتابع القصص حتّى الوصول إلى قِصَّةِ (الطوفان) التي جعلها المحمود مسك الختام لمجموعته، والتي جاءت انعكاسًا لشعور أستاذ نبيل - أحرق شبابه من أجل بناء أجيال مسلحة بالعلم وحب الوطن - بالحيف؛ نتيجة ثقل الزيف والخديعة وتشوه المبادئ. * المَجْمُوعَةُ القَصَصِيَّة: المسلخ. المؤلف: الأديب قصي المحمود. تاريخ الاصدار: الطبعة الأولى 2020م. عدد صفحات المَجْمُوعَةُ: 134 صفحة من القطع المتوسط. الناشر: دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع – بغداد
لطيف عبد سالم
-------------------------------------
القراءة نشرت في الصحف العراقية والمجلات الأدبية